عزت ابو علي – LebanonOn
منذ أن بدأت الهجرات اليهودية إلى فلسطين المحتلة قبل تأسيس كيان الاحتلال في العام 1948 من القرن الماضي، عملت الوكالة اليهودية على تنظيم هذه الهجرات، ولم يّغِب لبنان يومها عن أنشطة الوكالة.
اصطدمت الوكالة يومها في لبنان ببيئة الحرية الذي عاشها اليهود والرخاء الاقتصادي وتغليب مصالحهم التجارية والمالية على ميولهم الدينية فلم تكن الهجرة إلى فلسطين مطروحة على طاولات بحثهم، لكن ذلك لم يدم طويلاً حين بات لهذه الوكالة عيناً في العاصمة اللبنانية بيروت.
كان الثلاثينيات من القرن الماضي تعرَّف جوزيف كوهين الثري اللبناني اليهودي والذي كان يعمل تاجراً في أسواق بيروت القديمة ويسكن منطقة وادي أبو جميل "حي اليهود في بيروت"، على فتاة جميلة ولدت في القدس لأب مصري تُدعى شولا كوهين التي أسرت قلب جوزيف كوهين الذي تزوجها في عمر الـ 16 ونقلها إلى بيروت للعيش معه.
حتى ذلك الوقت كان كل شيء طبيعي، لكن شولا حملت في أفكارها حلم إقامة دولة لليهود في فلسطين، لذلك سارعت حين إقامتها في بيروت للاتصال بالوكالة اليهودية وبعثت برسالة مختصرة لها تقول فيها "اسمي شولا كوهين، أعيش في وادي أبو جميل في بيروت وأريد أن أساعدكم".
أرسلت شولا كوهين رسالتها مع عابر سبيل إلى مستوطنة "مسكاف عام" في شمال فلسطين المحتلة على الحدود مع لبنان، وعلى الفور قبلت الوكالة اليهودية العرض، ولم يكن هناك خيار آخر نظراً لشح العملاء في الدول العربية.
بعد أسابيع قليلة وصلها الرد من الوكالة اليهودية وطلبت منها المساعدة في إيجاد مخبئ لرجل يهودي في لبنان، الذي كان يُعَدُّ في تلك الفترة محطة سرية لاستيعاب اليهود وإرسالهم بطرق متعددة إلى فلسطين، وفي هذه الأجواء بدأ نشاط شولا كوهين.
نجحت شولا في مهمتها الأولى، ونتيجة لذلك جاءها رجل جنوبي يدعى موسى العبد الله وأبلغها بأن مجموعة من الصهاينة يرغبون في لقائها في بلدة "المطلة" على الحدود بين فلسطين المحتلة ولبنان، وكانت هذه المرة الأولى التي عبرت فيها الحدود منذ عام 1936.
عندما وصلت شولا إلى مقصدها التقت بالمدعو بريزنك وهو مسؤول في عصابات الهاغاناه وطلب منها الاستمرار في تزويده بمعلومات عن الثوار والسلاح والناس على الحدود بين فلسطين ولبنان.
وبعد النكبة عام 1948 وإنشاء "إسرائيل"، كان وجود شولا كوهين أكبر نجاح، وكان بإمكان قادة الاستخبارات القول لمؤسس كيان الاحتلال الذي تولى رئاسة الحكومة دايفد بن غوريون "لدينا جاسوسة في قلب لبنان".
كشف المؤرخ الصهيوني رونين برغمان أن آلية تواصل شولا مع الاستخبارات كانت تتم برسائل مشفرة عبر الإذاعة العبرية، فعندما تبث أغنية لعبد الحليم حافظ كان يعني ذلك "لقد استلمنا رسالتك"، لكن الأمر لم يدم لوقت كثير، فخلال سهرة في بيروت تعرفت شولا على يهودي فرنسي يُدعى جورج مولخو، الذي زودها بالحبر السري وآلات تقنية للتواصل مع الاستخبارات الإسرائيلية.
استعانت شولا التي أغرت المجتمع بشتى الوسائل بكثيرين لتنفيذ مهامها في لبنان، ومن بين هؤلاء جورج أنطون وليلى مزراحي وموظف المالية محمود عوض الذي كان يستدرج بعض النافذين ويحصل منهم على المعلومات الحساسة وينقلها إلى شولا.
لأعوام طويلة عَمِلَت شولا على اختراق المجتمع اللبناني بكثير من الحرية فكانت تنقل اليهود من غير اللبنانيين سراً إلى فلسطين المحتلة عبر الحدود الجنوبية والذين كان يأتون إلى لبنان من دولهم "بغالبيتهم جاؤوا من دول عربية"، ليتم نقلهم إلى فلسطين، وتروي شولا في مذكراتها العديد من عمليات النقل هذه كان أهمها مرافقتها لعائلة يهودية سورية لاجتياز الحدود اللبنانية نحو فلسطين، وقالت "لقد كنت حاملاً في شهري السابع ورغم ذلك اجتزت معهم الحدود سيراً على الأقدام لساعات طويلة وأوصلتهم إلى عناصر الوكالة اليهودية لمنحهم إقامة في فلسطين".
شكَّل العام 1958 نكسة لـ شولا كوهين ومشغليها في الاستخبارات الإسرائيلية، ففي ذلك الوقت تم انتخاب قائد الجيش اللبناني اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، وفي أول قراراته أصدر شهاب أوامره بإنشاء "المكتب الثاني" في مخابرات الجيش اللبناني.
عَمِلَ المكتب الثاني الذي ضمَّ يومها خيرة ضباط الأمن في الجيش اللبناني على تحقيق الأمن القومي للدولة، واستشعر شهاب خطر الصهيونية المُحدِق بلبنان، فأعطى توجيهاته لرجال الاستخبارات بتكثيف الرقابة على الحدود خاصة الجنوبية مع فلسطين المحتلة، ومع الأمر تعقَّدت عمليات تهريب اليهود نحو فلسطين المحتلة من لبنان، لكن شولا غيرت خطتها واعتمدت البحر سبيلاً لتهريب اليهود، من خلال ما سمي حينها بسفينة الأربعاء، التي كانت تأتي إلى بيروت كل يوم أربعاء بذريعة التجارة وتحمل معها اليهود والأموال المهربة من الدول العربية خاصة يهود العراق نحو قبرص ومنها إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.
لم تنحصر أعين المكتب الثاني بمراقبة الحدود وحسب، بل، امتدت إلى دوائر المؤسسات، لتكتشف عملية تزوير لطوابع بريدية بالإضافة إلى اختفاء الأصلية منها في الأسواق اللبنانية، وبعد متابعة حثيثة توصلت نتائج المتابعة إلى اسم الموظف الحكومي محمود عوض الذي وُضِعَ تحت المراقبة وهو ما أفضى الى اكتشاف علاقته المريبة بـ شولا كوهين التي تمَّت متابعة أنشطتها من قبل رجال المكتب الثاني الذين اكتشفوا علاقاتها باستخبارات إسرائيل وأسقطوها في قبضتهم.
شكل الخبر صدمة في أوساط العدو الإسرائيلي، فالجاسوسة الحديدية التي يسميها الموساد "اللؤلؤة" انهارت على يد الاستخبارات اللبنانية، وحوكمت شولا وعناصر شبكتها أمام القضاء العسكري، وفي العام 1962 صدر الحكم بإعدامها، ونتيجة لضغوط دولية مارستها فرنسا، خُفِّفَ الحكم إلى السجن عشرين عاماً مع الأشغال الشاقة، وخلال حرب النكسة في العام 1967 أَسَرَ جيش العدو أعداداً كبيرةً من الجنود العرب واشترطت مبادلتهم بـ شولا كوهين ويهود آخرين، وفي صيف العام 1967 اقتادت الاستخبارات اللبنانية الجاسوسة بسيارة عسكرية إلى بلدة الناقورة الجنوبية، وسلَّمتها إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي أوصلتها إلى الطرف الإسرائيلي، الذي استقبلها بحفاوة وكرمها مراراً وتكراراً ووصفها الموساد بإحدى أساطيره.
بدأت الهجرات الفعليَّة لليهود اللبنانيين في العام 1967 في أعقاب النكسة، حيث هاجر من لبنان ما يقدر بنحو 6000 يهودي، مما أدَّى إلى تقلُّص أعداد اليهود بشكل كبير وباتوا يُعدُّن بالمئات فقط في لبنان.
ومع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 قٌتِلَ عدد قليل من اليهود فمناطق تواجدهم في وادي أبو جميل كانت خط تماس للقوى المتحاربة، ونتيجة للقصف سقط هؤلاء قتلى.
وبسبب الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين والدول العربية، نشط القوميون العرب في لبنان الذبن استهدفوا عدداً من اليهود لكن الإعلام الصهيوني ضخم الأمر في سعيٍ للترويج بأن لبنان معادٍ للسامية، لكن بيان رئيس الجالية اليهودية في لبنان جوزيف عطية الذي اعترف بأن الجالية اليهودية شعرت تماماً بالأمان مع قوات الجيش والشرطة المسلمة والمسيحية أسقط ادعاءات العدو، حتى أن اللبنانيين ورغم اختلاف توجهاتهم في ذلك الوقت عَمِلوا على تزويد اليهود في منطقة وادي أبو جميل بحسب عطية نفسه بالطعام والماء، وأكثر من ذلك فمنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الراحل ياسر عرفات والتي كانت تسيطر على غالبية لبنان في ذلك الوقت رَكَّزت عدداً من عناصرها في كنيس كنيس ماغين أبراهام، الذي كان أحد أهم رموز المجتمع اليهودي، ويقع بالقرب من البرلمان اللبناني، من أجل منع تخريبه إلَّا أن العدو الإسرائيلي هو من قام بقصفه وتدميره في العام 1982 عندما اجتاح العاصمة اللبنانية بيروت.
منذ العام 1967 وحتى أواخر الحرب الأهلية في لبنان هاجر غالبية أبناء الطائفة اليهودية من لبنان، منهم من انقطعت أخبارهم كلياً ومنهم من بَقِيَ على تواصل مع من تبقى من أقاربه في لبنان، وشكَّلت الولايات المتحدة الأميركية وكندا وبعض الدول الأوروبية وأستراليا مستقراً لهم، وبلغت نسبة من هاجر من اليهود إليها 80%، فيما تم تسجيل وتوثيق قيام الـ 20 % الباقية بالاستقرار في فلسطين المحتلة وباتوا مواطنين يتبعون لدولة الاحتلال "إسرائيل".
في العام 1982 اجتاح الاحتلال لبنان ووصل إلى العاصمة بيروت، لكن الصدمة يومها كانت كبيرة فعند دخول جنود العدو إلى منطقة وادي أبو جميل "حي اليهود الرئيسي في بيروت" سأل العديد من الجنود بِلُغَةٍ عربية ولهجة لبنانية عن عائلات وأُسرٍ يهودية في الحي، لِيُكتَشَفَ لاحقاً أن هؤلاء ما هم إلا أبناء ليهود لبنانيين هاجروا عائلاتهم وأبنائهم الذين كانوا أطفالاً إلى فلسطين المحتلة، وباتوا لاحقاً جنوداً في جيش العدو وعادوا معه غزاة لوطنهم الأم لبنان!.
بالتزامن مع ذلك شهدت مُدُن طرابلس وصيدا وعاليه وبحمدون وبيروت ودير القمر هجرات مريبة، حيث روى أهالي هذه المناطق، عن جيرانٍ لهم من اليهود اختفوا فجأة رغم عدم الاعتداء عليهم ليتبيَّن لاحقاً أنهم باعوا أملاكهم وتركوا لبنان إلى الأبد ما دفع إلى طرح العديد من علامات الاستفهام حول امكانية أن يكون هؤلاء متورطين بالتعامل مع العدو الإسرائيلي الذي قام بتسهيل هروبهم من لبنان مع انتهاء المهام التي كُلِّفوا بتنفيذها لصالح أجهزة الاستخبارات المعادية، خاصة وأن هؤلاء هربوا بمراكب صيد بشكل غير شرعي أقلتهم من ميناء الصيادين في منطقة عين المريسة في بيروت إلى البحر الأبيض المتوسط ومنها إلى مراكب ضخمة باتجاه قبرص فإسرائيل، فقد كان رئيس وزراء العدو الأسبق آرييل شارون الذي كان جنرالاً عسكرياً في ذلك الوقت قاد فرقة شاركت باجتياح لبنان يتواصل مع يهود لبنان ويدعوهم إلى الهجرة منه نحو "إسرائيل" بحجة حمايتهم من هجمات محتملة ضدهم من قِبَلِ منظمات لبنانية تُقاتل الاحتلال.
وَلَّدَ هذا الأمر ريبة في نفوس اللبنانيين وجاء ذلك مُضافاً لما ارتكبه جيش الاحتلال من مجازر وفظائع بحق اللبنانيين والفلسطينيين في لبنان إبان الاجتياح وبأيدٍ كانت من بينها لبنانية من اليهود الذين قاتلوا ضمن صفوف الجيش الإسرائيلي ضد وطنهم لبنان، ونتيجة لذلك فقد تم اختطاف إسحاق ساسون زعيم الجالية اليهودية اللبنانية في 31 آذار عام 1985 وهو في طريقه من مطار بيروت الدولي بعد رحلة إلى أبو ظبي، كما تمَّ في وقت سابق اختطاف إيلي حلاق الطبيب البالغ من العمر 60 عاماً وحاييم كوهين حلاله اليهودي البالغ من العمر 39 عاماً وإسحاق تراب وييدا بنستي وسالم جاموس وايلي سرور، وتمَّ توثيق قتل كوهين وتراب وسرور على أيدي خاطفيهم وبقيَ مصير الآخرين مجهولاً، لكن يُعتقد أنهم قُتلوا أيضاً وأُخفِيَت جثثهم.
مِمَّا ليس مُفاجئاً أن تَوَرُّط العديد من أبناء الجالية اليهودية في لبنان مع العدو الإسرائيلي يعود لاقتناعهم بمخططات شارون، والدليل على ذلك أنه وعلى سبيل المثال فإن حاييم كوهين حلاله الذي قُتِلَ في لبنان ما هو إلا والد الصحافي الصهيوني الشهير في "إسرائيل" المدعو إدوارد حاييم كوهين حلاله والذي يُعرَفُ بـ إيدي كوهين الذي وُلِدَ في بيروت في العام 1972 وترعرع فيها وغادرها مع والدته إلى "إسرائيل" في ثمانينيات القرن الماضي، وكوهين اليوم هو من أكثر الصهاينة تطرفاً وعدائية للعرب عامة ولمن يُفتَرَض أنه وطنه الأم لبنان على وجه الخصوص، وما ذلك بالإضافة إلى ما سبق إلا دليل قاطع على انتفاء الادعاءات والشائعات وترويج الأكاذيب الصهيونية باضطهادهم في لبنان.
يتبع ...
لمتابعة الجزء الأول الضغط على الرابط التالي:
https://www.lebanonon.com/news/229198