قد ينظر البعض منّا الى السجناء على انّهم مرتكبون أفظع الجرائم وأشنعها، وهذا ليس اعتقادا خاطئا. فهناك السفاحون، و"قتّالو القُتَلى"، ومركتبو مختلف الجرائم ولو اختلفت درجة الجرم وانعكاسه على الضحية او على اهلها. لكن في المقابل أيضا، هناك مئات الموقوفين ينتظرون محاكماتهم ليصار الى اثبات الجرم وإصدار الحكم بحقهم، او يتمّ الافراج عنهم بعد تبرئتهم.
حتى الآن يبدو أن هذه النظرة باتت مألوفة لدى كثيرين، خصوصا مع "جوجلة" الرأي العام فيما يخصّ وضع السجناء في لبنان، مع كلّ سيرة عن العفو العام مثلا، او غيرها من القضايا المتعلقة بالسجون اللبنانية.
وفي داخل أروقة السجون، وتحديدا في الرواية التي سنسردها، كواليس خطيرة ومثيرة للشفقة لا تمتّ للإنسانية بصلة تحصل بالضبط. ليست رواية جديدة من "نتفلكس"، هذا بالفعل ما يشهده سجن روميه.
سجين بين الحياة والموت
سنتحدث عن سجين على باب الموت. لن نأتي على ذكر إسمه في هذا المقال، لأنّه لا يعلم انّ ايامه أصبحت معدودة، ولكي لا نؤثر على حالته النفسية وبالتالي صحته، بناء على طلب شقيقته. صاحب الـ54 عاما، سجين في مبنى الأحداث في سجن روميه بتهمة المتاجرة بالمخدرات (علما أن مبنى الأحداث كان يجب ان يكون مخصّصا للأحداث فقط، ولأنواع معيّنة من الجرائم).
بدأت النهاية في آخر يوم من شهر رمضان الفائت، حين بدأ يتورّم جسمه، خصوصا في أسفل رجليه وبطنه ويديه. لم تشفع حبة الدواء المسكّن التي أُعطيت له في صيدلية السجن في أن يستكين وجعه.
هذا السجين يعرف اليوم انّه يعاني من التهابات في الكبد وانّه يتعالج على هذا الأساس. هو لا يعرف الحقيقة. الخبيث تغلغل في كبده، ومن هنا انطلقت رحلة العذاب والألم ليست لوحده فقط، بل مع شقيقته أيضا التي تروي لنا تفاصيل قاسية من "درب الجلجلة" كما شاءت ان تسمّيها.
محكوم بتهمة لم يرتكبها؟
تعترف شقيقة السجين المريض التي هي ايضا فضّلت عدم الكشف عن إسمها، لكي لا تتعرّض الى مضايقات ستجدون مبرّراتها تباعا في هذا المقال، بأنّ شقيقها كان يتعاطى المخدرات. وفي يوم كان يشتري فيه الممنوعات من احد التجّار، دهمتهم دورية من المخابرات وتمكّنت من القاء القبض على شقيقها، فيما فرّ التاجر هاربا وترك "البضاعة" بحوزة السجين المريض. صدر حكم بسجن الرجل لمدة 5 اعوام بتهمة تجارة المخدرات، بعد عدم اقتناع المحقّقين بأنّه الشاري وليس التاجر، وبالرغم من انّه قدّم لهم اسم التاجر ورقم هاتفه وعنوانه، ودائما على زمّة شقيقة السجين في حديثها الخاص لموقع LebanonOn.
رحلة المعاناة بدأت...
تؤكّد شقيقة السجين انّ أخيها لم يكن مريضا قبل دخول السجن، والذي أمضى فيه حتى الآن 3 سنوات، و"ما كان يشكي من شي" على الاطلاق، مضيفة: "في آخر يوم من شهر رمضان، اتصلوا بي من السجن وقالوا لي انّه تم نقل شقيقي الى مستشفى الحياة وهو موجود الآن هناك، من دون معرفة أيّة تفاصيل إضافية".
وتتابع: "هكذا بدأت الرحلة، خضع أخي لنواظير عديدة، وبعد سلسلة فحوصات تبيّن انّه مصاب بسرطان وتشمّع الكبد، وحالته مستعصية جدا ولا أمل في أن يُشفى، وانّ ايّامه أصبحت معدودة. كنت أُحضر له وحدات دم كلّما طلبوا منّي ذلك، من بنك الدم في الحمرا، وفي احدى المرّات أحضرت 20 وحدة دم؛ "الدم ما عم بهدّي في جسمه" وهو بحاجة مستمرة له. وضع اخي تدهور وتعرّض لإشتراكات كثيرة. لا أمل بالشفاء". وتكشف شقيقة السجين انّها استدانت الكثير من المال من اجل اجراء الصور والفحوصات وشراء الادوية اللازمة لشقيقها واستمرّت على هذه الحال لفترة شهر تقريبا.
نقلوه من المستشفى بوضع حرج ورموه في السجن!
"الزيارة كأنك رايح ع سجن روميه نفس الاجراءات". تُمنع الزيارات في المستشفى بحسب شقيقة السجين الاّ يومي الاثنين والخميس، والمواجهة من بعيد بالرغم من أنه لا يمكنه القيام من سريره، بحسب ما تؤكّد، ولمدّة 5 دقائق فقط، ومن بعدها يأتي صوت الحارس ناهيا اللقاء الذي في أيّ وقت يمكن ان يكون الاخير الذي يجمع السجين بشقيقته: "يلا الله معك فلّي".
وتتابع: "بعد فترة طلبوا منّي تأمين 5 أدوية لشقيقي وفعلت ذلك، لأتفاجأ بعدها بأنّهم اخرجوه من المستشفى بالرغم من وضعه الصحي السيء جدا، ونقلوه الى مبنى الاحداث في سجن روميه من دون علمي، "فتحوا الباب الله وكيليك، وكبّوا خيّي جوّا". وتضيف: "لم يكن مزوّدا ببلاكيت الدم ولا بالأوكسيجين، يدوخ تارة، و ويسقط أرضا تارة أخرى". وضع لم يحتمله السجناء الموجودون معه في القاووش، فإتصلوا بشقيقته، وقالوا لها: "اخوك بالأرض، وهلّأ جابوه على روميه وشكلو عم بموت". وتخبر شقيقة السجين انّ "السجناء تواصلوا مع الطبيب الذي كان يداوي اخي في المستشفى، وطلب الاخير من المسؤولين في السجن ان يعطوه حقنة، فارتاح قليلا بفضل مفعولها".
وزيرة العدل تتدخّل بالقوّة
وفي سياق سرد هذه الوقائع، علم موقع LebanonOn انّ أصداء هذه الحادثة وصلت الى وزيرة العدل في حكومة تصريف الاعمال ماري كلود نجم، التي تدخّلت فورا، حيث حصل "أخذ وردّ" بينها وبين ادارة المستشفى بعد ان تواصلت معها، وأمرت بإعادة السجين الى المستشفى فورا.
واذ تفيد المعطيات، انّ المسؤولين في السجن أوصلوا السجين الى مدخل المستشفى "بالغصب"، بين الحياة والموت مقيّدا بالأغلال، وبقي في "ناقلة المساجين" الى ان اتصلت ادارة المستشفى بشقيقته، وطلبت منها ان تحضر مبلغا من المال (دخولية) لكي يتمكّن شقيقها من دخول الطوارئ، وامهلتها نصف ساعة فقط، وقالوا لها من الادارة بالحرف الواحد: "اذا ما بتجي عالوقت خيّك ما رح يفوت عالمستشفى، ورح يضلّ بالسيارة، ورح يرجع ع روميه". وهذا ما حصل فعلا، بعد تعذّر تأمين مبلغ 500 ألف ليرة في هذه المهلة القصيرة لإدخاله الى المستشفى.
وتكشف المعلومات انّه عندما علمت وزيرة العدل بما حدث أمرت مجدّدا بإرسال السجين الى المستشفى مساء اليوم نفسه، وطلبت من شقيقته عدم دفع اي من التكاليف نهائيا لأنّ السجين هو من مسؤولية الدولة.
بإنتظار اللحظة الاخيرة
شقيقة السجين تحاول اليوم، اخلاء سبيل شقيقيها بعد ان قال الطبيب ان أيامه معدودة وهو طريح الفراش، وهذا ما تؤكّده بالمناسبة تقارير طبية حصلنا عليها. هو لا يعرف الحقيقة، وهي بإنتظار أن يساعدها احد المحامين في النقابة في هذا الموضوع، لعلّه يموت في حضنها، وليس مقيّدا بالأغلال والأصفاد في جريمة قد لا يكون قد اقترفها.