قد لا تختلف المخاوف من إنهيار الأمن الغذائي بين لبنان وإقليم تيغراي في أثيوبيا من حيث المبدأ، ولكن من حيث الوقائع التي نراها عبر الاعلام ومواقع التواصل والتحليلات، قد يكون التباين واضحا لناحية المسبّبات او الشكليات الانسانية التي يعاني منها اللبنانيون او التغرينيون. فأي أوجه شبه بين الأزمتين؟ وهل يلحق لبنان بمأساة الإقليم الأثيوبي؟
يواجه اليوم 4 مليون شخص في تيغراي خطر المجاعة من اصل 7 مليون نسمة يعيشون في الاقليم، 350 ألف شخص بينهم يعيشون ظروف المجاعة الكارثية وفق بيانات التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي في تيغراي ومنطقتي أمهرة وعفار. ووفق البيانات أيضا، 5.5 مليون شخص يواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وهذا أعلى رقم لأشخاص يصنفون ضمن هذه المرحلة منذ عام 2011 أثناء المجاعة في الصومال.
وتعود أسباب انعدام الأمن الغذائي الحاد في تيغراي الى الصدام الحاصل بين الحكومة الفيدرالية الأثيوبية والحزب الحاكم في منطقة تيغراي الشمالية. وادّى هذا النزاع الى نزوح جماعي لا سيّما لدى المجتمعات الريفية، والى تدمير واسع النطاق للبنية التحتية الحيوية والمزارع على وجه التحديد. ومن أوجه الصراع أيضا فقدان فرص العمل، وفقدان الاصول الانتاجية مثل البذور والمواشي، بالإضافة الى عدم القدرة الى الوصول الى الأسواق لشراء المواد الغذائية هذا إن توفّرت.
هذه المجاعة التي يعيشها التغرينيون حاليا، سبق وحذّرت جهات دولية عدّة السلطات اللبنانية من ان يصل الدرك الذي نشهده الى المشهد عينه. فمن السيناريو اليوناني الذي تمّ تحذيرنا منه مرارا وتكرارا ولم يكن هناك مِن آذان صاغية، الى السيناريو الفنزويلي الذي نعيش تفاصيل اجزائه ليس من مدّة طويلة من دون ان يحرّك احد ساكنا، حتى السيناريو التغريني الذي بدأت ملامحه تلوح بالأفق، والذي قد يكون المصير المحتمّ الذي يتّجه اليه اللبنانيون.
لا يختلف الصراع في تيغراي عن الصراع في لبنان وإن لم يكن مسلّحا. هو صراع صلاحيات، صراع تسمية وزراء، هو صراع لشد الحبل الطائفي وللمحاصصة. هو صراع في الزبائنية والنكايات السياسية. هو صراع للوصول الى جائزة "أفضل فاسد".
الدولار اليوم أكثر من 15 ألف ليرة ولا احد يدري الى ايّ سقف سيصل، امّا الليرة اللبنانية فقد خسرت اكثر من ٩١% من قيمتها، والحد الادنى للأجور أصبح يساوي 40 دولار بعد ان كان يساوي 450 دولارا. ومن رحلة الدولار التصاعدية هذه، بدأت انذارات تدقّ باب الأمن الغذائي. فالقدرة الشرائية للبناني تدهورت الى مستويات قياسية لم تصل اليها حتى في احلك ايام الحرب الأهلية، وتضخّم الأسعار الذي فاق ايّ قانون لردعه جعل من المواطنين يستغنون عن الكثير من السلع التي كانت تدخل ضمن سلّتهم الاستهلاكية الشهرية.
وفي هذا الاطار، ووفق آخر إحصائية لـ"الدولية للمعلومات" فإنّ الأسر التي ترزح تحت خط الفقر يبلغ عددها 220 ألف أسرة، أي ما يقارب 1.1 مليون لبناني، حيث انّ دخل كلّ عائلة منها لا يزيد عن 1.2 مليون ليرة شهرياً، ايّ ما يعادل اليوم 79 دولارا شهريا، او دولارين ونصف فقط يوميا.
امّا عن مَن لا يزال لديه القدرة على شراء بعض السلع الأساسية، فهو يواجه جشع التجار واحتكارهم: من أزمة البنزين والمازوت، الى أزمة اللحوم وأسعارها الخيالية، الى أزمة الادوية المختفية في المستودعات، فأزمة انقطاع حليب الأطفال.
ولا بدّ من الإشارة أيضا، الى عاملين أساسين يهدّدان الأمن الغذائي في لبنان، الأوّل مرتبط بمحطّة الحاويات في مرفأ بيروت، حيث اعلن رئيس غرفة الملاحة البحرية ايلي زخور في حديث تلفزيوني انّ 6 رافعات من أصل 16 رافعة فقط تعمل في المرفأ المتضرّر اصلا لإستيراد المواد الغذائية التي يحتاجها لبنان، وهي مهدّدة جدّيا اليوم في حال اصابها ايّ عطل لأنّ اصلاحه يتطلب سيولة بالدولار وهي محجوزة في المصارف، ما يصعّب عملية التصليح والصيانة.
ومع استمرار المأزق الحكومي، والتعدي على الاحتياطات الإلزامية للبنوك لدى مصرف لبنان ستزداد النتائج الخطيرة لتطال العلاقة مع المصارف المراسلة حيث من المرجّح ان يفقد لبنان علاقاته معها ما سيقوّد بدرجة أكبر توافر خدمات المدفوعات العابرة للحدود من اجل التحويلات والتجارة والسياحة وهي من الدعائم الرئيسية للاقتصاد اللبناني، وفق وكالة "موديز".
ليس هذا فقط، فنحن أمام مرحلة رفع للدعم من دون ايّ خطة واضحة، بالرغم من كثرة الحديث عن البطاقة التموينية وفتح الروابط الالكترونية للتسجيل عليها لجمع الاحصاءات اللازمة وحصر المساعدات الموعودة للعائلات الاكثر فقرا. إلا انّ الأزمة الحقيقية في هذا الملفّ هو انّ لا مصدر لتمويل هذه البطاقة، حيث تؤكّد مصادرنا ألا تجاوبا قطريا مع مطلب رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب الذي يحاول انتشال حكومته واللبنانيين معها من بحيرة النار التي أوقع نفسه بها بقبوله استلام السلطة التنفيذية في مثل هذا الوضع، وفي وقت تقوّد فيه "الزمرة" الحاكمة ايّ جهود فعلية لوقف الإنهيار.
وما يؤكّد انّ مسعى الرئيس دياب قد سقط او أُسقط ضمن اللعبة الدولية التي جعلت من لبنان ورقة للتفاوض في ظل المتغيرات الاقليمية الجديدة، تصريحات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون التي أكّد فيها انّه يعمل مع شركاء دوليين لإنشاء آلية مالية تضمن استمرار الخدمات العامة اللبنانية الرئيسية، مع العلم أنّ وعود ماكرون فيما يخصّ الملف اللبناني أصبحت "عالكمّون"، وهو الذي أتى يتباهى بين اللبنانيين في شوارع بيروت، مستبقا الصفعة التي حصل عليها من احد الفرنسيين قبل أيّام، هذا من جهة. ومن جهة اخرى التعميم الاخير لحاكم مصرف لبنان، الذي يعدّ نوعا من تنفيسة حتّى يتمكن المودعون المتوسطو الحال من العيش وشراء الحاجات الاساسية.
فهل تتبدّد هذه المخاوف عبر انفراجة "عجائبية" قريبة؟ هل سيستفيد لبنان مع متغيّرات المنطقة؟ ام انّ السيناريو التغريني سيصل اليه وتحلّ كارثة الكوارث؟