كُلّف الرئيس سعد الحريري مرة جديدة لتشكيل حكومة مهامها الاساسية انقاذ لبنان من الازمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة، حيث نال على 65 صوتا من اصل 120. وتوافدت الكتل النيابية والنواب المستقلّون الى قصر بعبدا فيما انقسموا بين مؤيّد لعودة الحريري وآخرون معارضون لعودته خصوصا وانّ استقالة الحريري الآخيرة جاءت بضغط من الشارع بعد اندلاع ثورة 17 تشرين.
وكان ابرز موقف لكتلة الوفاء للمقاومة التي اعتذرت عن تسمية ايّ شخص لترؤس الحكومة، إذ اكد رئيسها محمّد رعد ان التفاهم الوطني ممر الزامي لحفظ لبنان وحماية سيادته ومصالحه، وانّ عدم تسميتهم أحدا لرئاسة الحكومة هو اسهام في إبقاء مناخ إيجابي يوسّع سبل التفاهم المطلوب.
ولكن في العودة قليلا الى الوراء، الى "خطاب الردّ" الذي اعلن فيه امين عام حزب السيد حسن نصرالله عن موقفه من كلام الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بعد فشل الخطوة الاولى من مبادرته الفرنسية. حينها اكّد نصرالله انّهم من الداعمين للمبادرة الفرنسية خصوصا في بندها المتعلّق بتكليف رئيس حكومة، مشدّدا على انّ الحزب ليس لديه مشكلة ان يتولّى الحريري رئاسة الحكومة أو أن يسمي أي شخصية تنوب عنه.
ولم تكن هذه المرّة الاولى التي يتمسّك حزب الله بالحريري في رئاسة الحكومة ومعه ايضا حركة امل. وبدأ هذا التمسّك منذ التسوية الرئاسية: ميشال عون لرئاسة الجمهورية، وسعد الحريري لرئاسة الحكومة وذلك وفق قاعدة الاقوى في طائفته. وكان جليّا هذا التمسّك عند استقالة الحريري من السعودية في اوائل تشرين الثاني من العام 2017، حيث اظهر نصرالله دعمه للحريري معتبرا عندها انّ شكل الاستقالة يؤكد انها كانت قرارا سعوديا والحريري اجبر عليها وانها لم تكن رغبته ولا ارادته ولا قراره، وحتّى ان نصرالله شرّع التساؤلات والقلق على رئيس الحكومة، مشيرا الى انّ شكل الاستقالة هو اهانة لكرامة الحريري وللبنان.
هذا الموقف الداعم، انسحب ايضا على موقف حزب الله قبيل وبعد استقالة الحريري الثانية التي تلت ثورة 17 تشرين حيث اكّد نصرالله على تمسّكه بالحريري وبأنّ حكومته الثانية في عهد عون ستصمد في وجه كل التحدّيات. ولم تخف المصادر بعد الاستقالة الثانية للحريري "الاغراءات" التي قدّمها الثنائي الشيعي من اجل عودته الى سدّة الرئاسة مرّة جديدة.
فلماذا لم يسمّ حزب الله الحريري في الاستشارات النيابية الاخيرة لطالما انّه متمسّك به لدرجة ان يقدّم له "الاغراءات" مع حليفه "أمل"؟
لا بدّ هنا من التوقف قليلا عند مواقف الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز ضدّ حزب الله اثناء مشاركته في الدورة الاخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث حمّل سلمان حزب الله المسؤولية عن الانفجار المدمر الذي هز مرفأ بيروت أوائل آب المنصرم، واصفا بأنّه "حزب ايران الارهابي". واعتبر وقتها الملك سلمان انّ تحقيق ما يتطلع إليه اللبنانيون من أمن واستقرار يتطلب تجريد حزب الله من السلاح".
وفيما دخلت السعودية عبر مواقف ملكها الى كنف العوامل المؤثّرة بتنفيذ الاصلاحات التي وردت في المبادرة الفرنسية، وغيرها من العوامل التي تؤثّر بصمود لبنان في وجه ازمته عبر الودائع المصرفية التي كانت السعودية وسواها من الدول الخليجية تساهم بها في تحسين الوضع، فُهم من موقف الملك سلمان من اعلى منبر دولي انّ ذلك مستحيل لطالما حزب الله موجود في الحكومة اللبنانية وفي مراكز القرار اللبناني.
وجاء الموقف السعودي الصريح والواضح، بعدما أفادت صحيفة لوفيغارو الفرنسية، أن ماكرون هدّد بالتنسيق مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بعقوبات تشمل رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة السابق سعد الحريري. وبالرغم من انّ ماكرون قد وبّخ الصحافي الفرنسي الذي نقل هذه المعلومات قبيل زيارته الثانية الى بيروت في الاول من ايلول الفائت، الا انّ ماكرون لم ينف نفيا قاطعا ما اوردته الصحيفة بل اكتفى بإعتبار ان تسريب مثل هذه المعلومات يضرّ بالمبادرة الفرنسية، ففي النهاية "لا دخان من دون نار".
امّا اليوم ومع تعثّر المبادرة الفرنسية في اولى خطواتها، كثُر الحديث عن جوّ دولي "اميركي، فرنسي، خليجي وسعودي تحديدا" داعم لعودة الحريري الى سدّة الرئاسة فيما لم تتنازل فرنسا عن ورقتها الاصلاحية، ولا السعودية عن مواقف ملكها. من هنا يمكننا ان نفهم انّ حزب الله تحاشى تسمية الحريري في الاستشارات لكي لا تكون تسميته "وصمة عار" امام الدول الخليجية والمجتمع الدولي كما حصل مع حكومة حسّان دياب. اضافة الى ذلك، ترك حزب الله الطريق مفتوحا امام الحريري حين لم يسمّ احدا آخر في الاستشارات، ومع تأكّده انّ عدم التصويت له لن يكون عاملا يعيق عودة الحريري الى رئاسة الحكومة.
ولا بدّ من الاشارة الى انّ حزب الله لم يسمّ يوما الحريري الأب والحريري الإبن لتشكيل حكومة، في حين انّه سمّى حسان دياب بحجّة "الضرورة" لإنتشال البلد من المستنقع الذي غرق به. وبما انّ الحجة لا تزال موجودة حتى اليوم، كان بإمكان الحزب ان يتحجّج بالواقع الاقتصادي اللبناني ويسمّي الحريري، الّا انّه فضّل عدم تسميته.
وانطلاقا من هنا، يُفهم من خطوة حزب الله هذه، حماية نوعية للحريري لإزالة "الشبهات" عنه فيما يتعلّق بفرض العقوبات عليه. اذًا، حزب الله سهّل عملية تكليف الحريري ولم يضع امامه العقبات خصوصا وانّ اجواء الاستشارات غير الملزمة التي عبّر عنها محمّد رعد والحريري يوم امس كانت ايجابية. وفيما تؤكّد المعلومات الصحافية المتداولة عن حلّ عقدة "تسمية الوزراء" وعقدة "وزارة المالية" قبل عملية التكليف، تبقى العبرة في التشكيل.