لحقت فرنسا الاسبوع الفائت انفاس مبادرتها الاخيرة، قبل اعتذار الرئيس المكلّف مصطفى اديب اثر العرقلة التي وُلدت على اثر تمسّك الثنائي الشيعي "أمل" و"حزب الله" بوزارة المالية. ولم يُقدم ماكرون على الاستسلام الفوري، من اوّل مطبّ يعترض عودة "الأمّ الحنون" الى كنفها التاريخي في المنطقة، اذ قرّر تمديد فترة الانعاش لعلّ المبادرة تقوم من غيبوبتها بالرغم من جلستي التأديب التي اقامها ماكرون اثر اجتماعه بالمسؤولين اللبنانيين لدى زيارته الاولى والثانية الى لبنان.
لكن هل يهمّ الوضع في لبنان فرنسا الى درجة ان تضع هيبتها في المنطقة على المحك؟ هل المبادرة هي فعلا من اجل انقاذ لبنان من دون ايّ اهداف اخرى؟ ماذا لو فشلت المبادرة؟ وماذا ستخسر فرنسا عندها؟ هذه الاسئلة وغيرها توجّه بها موقع LebanonOn الى الباحثة في علم السياسة رانيا حتّي التي تعتبر انّ "المبادرة الفرنسية اتّت بلحظة دولية واقليمية صعبة، وبوقت يعيش فيه النظام العالمي مخاضا ينعكس تلقائيا على لبنان متعدّد المحاور".
فرنسا في لبنان من اجل مصالحها
وتؤكّد حتّي انّ "المبادرة أتت الآن، لأنّ الوضع وصل الى حافة الانهيار وتريد فرنسا ان تساعد لبنان من منطلق صداقتها القديمة، وانطلاقا من مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية، وهي تريد ايضا ان تثبت وجودها بشكل واضح وصريح خاصة في منطقة الشرق الاوسط، حيث تتوسّع اسرائيل بالتطبيع مع الدول العربية وما له من تداعيات سلبية على فرنسا ومصالحها، لا سيّما وأنّ الأهمية التي كان يتمتّع بها مرفأ بيروت قد خسرها لصالح مرفأ حيفا"، مشيرة الى انّ "هذا الأمر سيضرّ بالتأكيد بالشركات الفرنسية بمقدّمها توتال التي تريد التنقيب عن النفط، والتي تريد من بيروت ان تكون مركزا لتصدير النفط والغاز الى اوروبا".
فرنسا ستخسر موطئ قدمها الوحيد في المنطقة اذا فشلت المبادرة
وترى حتّي انّ "نجاح المبادرة الفرنسية سيكون له تداعيات ايجابية على لبنان وفرنسا"، موضّحة انّه "من الناحية الاقتصادية، سيتمّ تحريك الملف المالي في لبنان من "سيدر" الى صندوق النقد الدولي والمساعدات واعادة اعمار بيروت والمرفأ، وهذا ما لا تريده اسرائيل والعديد من الدول المتضرّرة من نجاح واعادة اعمار المرفأ في المنطقة".
وتضيف: "من ناحية فرنسا، إن اعادة الاعمار ستزيد من النفوذ الاقتصادي لها في المنطقة من خلال الشركات والهبات والقروض والرساميل التي ستضخّها في لبنان".
بالمقابل، تعتبر حتّي انّ "فشل المبادرة الفرنسية يعني انّ الوضع سيتأزّم اكثر في لبنان، وانّ فرنسا مهدّدة بخسارة موطئ قدمها الوحيد من منطقة شرق المتوسّط، وقد تخسر النفوذ الاقتصادي الذي تطمح اليه من خلال اعادة الاعمار، وبالتالي ستخسر المنطقة الجيوسياسية والجيواستراتيجية التي من خلالها تسعى لتكون المسيطرة على بوابة الشرق الاوسط، خصوصا انّ شركاتها موجودة في عرض البحر للتنقيب عن النفط والغاز حيث وجود تريليونات من كميات الغاز الطبيعي النظيف التي تحتاج اليها اوروبا الساعية من خلال اتفاقيات المناخ الى الوصول الى بيئة نظيفة في انحاء اوروبا".
فرنسا لن تتحمّل الخسارة... وتركيا وايران مرشّحتان
وتشدّد حتّي على انّ "فرنسا لن تتحمّل فشل مبادرتها في لبنان، والوضع سينحسب على نفوذها في العديد من الدول الافريقية، في الوقت الذي تشهد المنطقة تمدّدا تركيا وروسيا وايرانيا وصينيا من خلال طريق الحرير، اضف الى ذلك التطبيع مع اسرائيل، وهذا الفشل في حال حصل سيُخسر فرنسا تواجدها في ظلّ كل هذا السباق على الثروات المكتشفة في منطقة حوض المتوسّط".
وتقول حتّي: "فرنسا ستكون المتضرّرة الوحيدة في المنطقة، اذ انّ سوريا اصبحت تحت النفوذ الروسي، ويوجد اسرائيل وميناء حيفا من جهة اخرى وهي الممثل الاول للنفوذ الاميركي في المنطقة، عدا عن انّ لا خسارة امام النفوذ الصيني الذي يمكن ان يجد مساره عبر الشراكة مع ايران او النفوذ الروسي في المنطقة"، لافتة الى انّ "الخطر بالنسبة لفرنسا يكمن بأنّ سوريا وتركيا واسرائيل غير موقّعة على معاهدة أعالي البحار أي اتفاقية القانون الدولي للبحار، وبالتالي تستطيع كل من تلك الدول المحيطة بلبنان الاستيلاء على المنطقة الاقتصادية الخالصة، وفرنسا هنا قد تخسر فرصة الاستفادة من التنقيب واستخراج النفط".
تتابع: "في حال خسرت فرنسا موطئ قدمها في لبنان، فإن تركيا وايران مرشحتان لبسط نفوذهما، لا سيّما وانّهما متفقتان على بعض الملفات، وخاصة ان تركيا امتعضت من التطبيعات العربية مع إسرائيل مما قرّب أكثر وجهات النظر بين ايران-تركيا".
هل يرضخ ماكرون للثنائي الشيعي؟
تعتقد الباحثة رانيا حتّي انّه "من الممكن جدا ان نرى فرنسا ترضخ للثنائي الشيعي وستحاول المستحيل لإنجاح مبادرتها من اجل انقاذ ما تبقّى من وجودها السياسي والاستراتيجي وحتى الثقافي، فخسارة فرنسا للبنان ستنعكس على موطئ قدمها في افريقيا وعندها ستكون حتما امام "نظرية الدومينو" بحيث انّ الخسارة ستتدحرج وتلحق الهزيمة بفرنسا ليس فقط على صعيد لبنان بل على صعيد المنطقة ككلّ".
سقوط اديب لا يعني سقوط المبادرة الفرنسية
وفي مقابل ذلك، لا تعتقد حتّي "انّ فرنسا قد تلوّح بوضع حزب الله على قائمة الارهاب في حال رفض الثنائي الشيعي المداورة والتنازل عن وزارة المالية، خاصّة انّها بحاجة ماسّة الى انجاح المبادرة"، مشيرة الى انّه "من الممكن كثيرا ان يسقط مصطفى اديب، لكن هذا لا يعني انّ المبادرة الفرنسية قد سقطت، فالمبادرة ليست محصورة بالرئيس المكلّف وربّما ستذهب فرنسا الى تسوية اخرى تؤمّن لها حاجاتها في لبنان عن طريق الاطراف الاقوى وهي الثنائي الشيعي، بالتالي استبعد ان تدرج فرنسا حزب الله على قائمة الارهاب لأن مثل هكذا خطوة، تقضي على وجودها في لبنان".
وشكّكت حتّي بالمعلومات التي اوردتها احدى القنوات المحلية والتي تفيد بأنّ فرنسا طلبت من ايران إقناع الثنائي الشيعي بالتخلّي عن حقيبة الماليّة مقابل عدم التصويت على الاقتراح الأميركي بفرض عقوبات على طهران في مجلس الأمن، مؤكّدة انّ "ايران محصّنة بصوتي الفيتو الصيني والروسي في مجلس الأمن، وهي ليست بحاجة الى الفيتو الفرنسي".
الولايات المتحدة لا يناسبها نجاح المبادرة الفرنسية...
وفي خضمّ الحديث عن عرقلة اميركية للمبادرة الفرنسية، تفيد حتّي بأنّ "الولايات المتحدة لا يناسبها نجاح هذه المبادرة، خصوصا وانّها تنصّ على الاصلاح في النظام المصرفي". وتعيد حتّي هنا هذه العرقلة الى مرحلة الطائف، وتشرح: "عندما ابرم اتفاق الطائف بتوافق اميركي سعودي سوري، سوريا استلمت الأمن في لبنان والسعودية استلمت رئاسة مجلس الوزراء، فيما استلمت اميركا النظام المالي عبر وكيلها الحصري رياض سلامة، لذلك انّ المبادرة الفرنسية تفقد اميركا نوعا من السيطرة والهيمنة على النظام المالي، وهي التي هزّت الاقتصاد اللبناني من خلال ازمة الدولار والعقوبات".
وتختم حتّي حديثها لموقع LebanonOn: "العرقلة اصبحت واضحة، واميركا تحاول ان تنحو بالمبادرة الى نوع من الوضع الاقليمي والدولي لتأخذ بعدا خارجيا، لكي تحفظ وجودها في التسوية على ترسيم الحدود، والاتفاق مع ايران ولتحفظ حقّ وكلائها في لبنان وحلفائها في المنطقة".
فأي سيناريو ستشهده المبادرة الفرنسية في الايام المقبلة؟ هل سترضخ فرنسا في نهاية المطاف للثنائي الشيعي من اجل ان تخرج شامخة في المنطقة؟ هل سيسقط اديب لقيامة مبادرة اخرى؟ امّ ان المجهول سيكون مصير لبنان المنتظر؟