من "عبّارة الموت" انطلقوا بحثا عن حياة افضل لهم، بعد ان ضاقت بهم الدنيا في لبنان ازاء الازمات الاقتصادية والمعيشية الصعبة. مهاجرون غير شرعيين قرّروا الهروب عبر البحر من الواقع الأليم الذين يعيشون به، فكان قدرهم أسوأ بكثير مما كانوا يتوقّعون. فمن اصل 50 مهاجرا -معظمهم من اللبنانيين-، انطلقوا من شاطئ المنية شمالا. عاد 15 شخصا منهم جثثا من بينهم طفلين، فيما لا يزال عدد آخر في عداد المفقودين والمصابين.
ومن بين احد الضحايا الطفل محمد نظير محمد ذو السنة و8 اشهر، الذي انتهت رحلة حياته في عزّ بدايتها. وتخبرنا والدة محمد تفاصيل مروّعة عن المأساة والمعاناة التي عاشوها في عرض البحر، لا يمكن لأي مخلوق ان يتصوّرها، ولا يمكن لأحد ان يصدّقها او يشاهدها الّا في الأفلام.
تقول والدة محمد بداية انّ "الوضع في لبنان اصبح مقرفا بعد ان تغلّب علينا الفقر، واضطررنا الى بيع المنزل وكلّ اغراضنا وقررت وعائلتي اللجوء الى دولة اخرى لعلّنا نجد حياة جديدة اخفّ وطأة من صعوبات الحياة في لبنان"، لكنّها لم تتوّقع ان رحلة الخلاص ستكون كابوسا آخر تخسر فيها ابنها الوحيد.
بعد 16 ساعة بدأت النكبة... نفذ المازوت وعلقت العبارة 8 ايام في البحر
وقبل الغوص في تفاصيل القصة المؤلمة، كان لموقع LebanonOn ان يطّلع على تفاصيل الرحلة، وكيف وصلت بالمهاجرين الى هذه الحال. واذ تؤكّد معلومات خاصة لموقعنا انّ "عدّة اشخاص ممّن هم على تواصل دائم مع شبكة المهرّبين كانوا يدخلون ويخرجون مرارا وتكرارا الى الباص الذي نقل الركاب الى الشاطئ في منطقة المنية حيث نقطة الانطلاق بحرا بهدف تمييع هوية المسؤول عن هذه الرحلة".
وتفيد المعلومات بأنّه "جرى مصادرة اغراض الركاب التي كانت بحوزتهم، بالاضافة الى عدد من الهواتف، وقال المهربون انّ جميعها ستكون على متن العبارة، وانّ الركاب لن يحتاجوا اصلا شيئا في خلال الرحلة، فكلّ شيء مؤمّن من مياه وفواكهة...". وتضيف المعلومات انّ "ابن شقيق المهرّب هو كان من بين المسافرين وتبيّن لاحقا انّه قائد العبارة، الامر الذي اعطى الركاب جرعة من الراحة، بحيث انّه لا يمكن للمهرّب ان يتلاعب بمصيرهم ويؤذي احد اقاربه".
وتشير المعلومات الى انّه "بعد حوالي 16 ساعة من انطلاق الرحلة، اضاعت العبارة طريقها، وكلّ محاولات ايجاد المسار الصحيح للرحلة افضت الى نفاذ كمية المازوت وبقيت العبارة عالقة وسط البحر لمدة 8 ايّام".
اسماك القرش تحيط بالعبّارة... وصراخ بعد فوات الآوان
وانطلاقا من هنا، لفتت والدة الطفل محمد الى انه "كان يوجد كمية قليلة من المازوت مخزّنة على متن العبارة، لكنّنا تركناها الى حين ايجاد اي بصيص نور في ظلمة الليل لنتمكّن من الذهاب او التوجه اليه، وكانت العبّارة في الكثير من الأوقات محاطة بأسماك القرش والحيتان المفترسة"، مضيفة انّ "عوارض الجوع والعطش بدأت تظهر في اليوم الثاني جليّا على مختلف المهاجرين" الذين وصل عددهم الى 50، بالرغم من انّ العبارة لا تتّسع لأكثر من 30 شخصا. وقالت: "المهرّب ضحك علينا، وصرنا نصرخ عندما رأينا الأعداد كبيرة قبل الانطلاق، لكن الأوان كان قد فات من اجل اتخاذ اي قرار آخر، لأن الخروج من العبارة اوالصعود اليها ليس بالأمر السّهل ويحتاج الى الكثير من المساعدة".
تفاصيل مؤلمة عن الرحلة الأخيرة للطفل محمد: مات جوعا وجثّته رُميت في البحر
وعن طفلها الوحيد محمد تروي والدته بحرقة وغصّة تفاصيل المصيبة التي حلّت بعائلتها: "بدأ محمد بالمعاناة من الجوع والعطش في اليوم الثاني من الرحلة"، ولم تنفعه "ببرونة" الماء والملح (مياه البحر) من الصمود اكثر الى ان توفّي في اليوم الثالث حيث بدأت تفاصيل المشهد الأصعب من هذه الرحلة المشؤومة.
وتتابع: "غسلنا الجثة وكفنّاها وتركناها في العبّارة، على امل ان يجدنا احد لكي يساعدنا ونأخذ الجثة معنا وندفنها بالطريقة اللائقة، لكن عندما بقينا لوقت اطول عالقين في البحر، وبسبب اشعة الشمس الحارقة، خفنا من ان تتحلّل الجثة بسرعة وتسبّب رائحة كريهة، فقررنا وضعها في البحر شرط ان تكون مربوطة بحبل بالعبّارة لكي تحافظ على رطوبتها".
وتضيف: "بسبب الأمواج، كانت العبّارة تتعرّض الى خضات كثيرة، ما كان يؤدي الى شدّ الحبال على جثة محمد وجثة قريبه الآخر (3 سنوات)، وخشينا من ان تتمزّق الجثث في البحر وتتحوّل الى أشلاء على مرأى من اعيننا، عندها قرّرنا استعادة الجثث الى متن العبّارة، حيث وجدناها منفوخة وذو رائحة كريهة نتيجة لبدء تحلّلها".
وامام كل هذا المشهد المرير، قرّرت العائلة رمي جثة محمد في البحر، وقالت والدته: " قال من كان في العبارة معنا لي "خلّي صورة ابنك حلوة بذاكرتك، أرمي الجثة في البحر احسن ما تتركي صورة بشعة لجثة ممزقة ومشوّهة، وهذا ما حصل بالفعل".
وتتابع والدة محمد رواية معاناتهم، فقد توفي 4 اشخاص على متن العبارة من بينهم ابنها وابن ابن خالها، بالإضافة الى سيدة سورية وشاب بنغالي، مشيرة الى انّ زوجها تعرّض لهبوط حاد في السكري وفقد وعيه اكثر من مرّة، فيما ابنتها "خلّصوها" في اللحظة الاخيرة. وتضيف: "لو اصابها اي مكروه لكنت انتحرت وانهيت حياتي في وسط البحر".
كارثة اخرى كادت ان تصيب المهاجرين
وعلى تخوم اليوم التاسع، "صادفت عبّارة الموت باخرة تركية بالقرب منها، فقفز احد الركاب وتوجّه سباحة الى الباخرة وصعد اليها بعد ان استحصل على اذن، وشرح لمن كان على متنها الوضع الذي نحن فيه"، بحسب والدة محمد.
وتؤكّد انّ "المسؤولين عن الباخرة قرّروا المساعدة وقدّموا لنا مياه الشرب وما توفّر، لكي تتحسّن صحتنا بعد ان كان معظم المهاجرين قد فقدوا وعيهم نتيجة الجوع والعطش والظروف المناخية الصعبة"، لافتة الى "انّهم اتصلوا بقيادة الجيش اللبناني لتأمين عودتنا الى لبنان مرة اخرى".
وتشرح والدة محمد تفاصيل مروّعة عن عملية الاجلاء التي كادت ان تسبّب كارثة اخرى: "اخذت الباخرة التركية تسحب العبّارة نحوها بواسطة الحبال، ولكنّ عددا من الركاب صاروا يقفزون من العبّارة ويسبحون باتجاه الباخرة خوفا من ان تتركنا، وليحاولوا ان ينقذوا انفسهم، بحيث اصبحوا عالقين بين العبّارة من جهة والباخرة المستمرّة بسحبنا من جهة اخرى، ما كاد ان يتسبب بسحلهم وهم في المياه، الا انّ العناية الالهية انقذت الموقف".
وفيما تتزايد مأساة اللبنانيين، تواصل استخبارات الجيش في الشمال تحرّياتها عن أفراد الشبكة المسؤولة عن "عبّارة الموت" من اجل إلقاء القبض عليهم ومحاسبتهم، الّا انّ الاكيد أن لا شيء قد يعيد محمّد او سواه ممن فقد حياته جوعا على متن العبارة، او غرقا في محاولة للعودة سباحة.
وتتحسّر والدة محمد اليوم، انّها اجبرت على العودة الى لبنان بعد ان اعطوها منوّما على متن الباخرة التركية بسبب رفضها للعودة، وهي تشعر اليوم بأن طفلها الوحيد قد رحل من دون فائدة، وبأنّها عادت الى حياتها الفقيرة مرة اخرى، من دون ابنها ومن دون منزلها الذي باعته. وبدلا من ان تقف الدولة والمعنيون للملمة الجراح، تمّ توقيف والد محمد كي يدفع ضبطا قديما بقيمة مليون ليرة.
هذه قيمة الانسان في لبنان، وهكذا اصبحت تقدّر اليوم؟ فلا تجازي، لك ربّ يجازي.