كثُرت في الآونة الاخيرة في الاوساط السياسية والاعلامية، الاحاديث عن انّ الرئيس المكلّف مصطفى أديب سيقدّم اعتذاره لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون عن تشكيل "الحكومة المَهمّة". وبالرغم من كل الضغوط الفرنسية، وكل التسهيلات التي اوحت بها معظم الكتل النيابية لدى تسمية اديب من اجل تشكيل الحكومة، الاّ انّ العرقلة التي شهدها مسار التأليف بعد ايام على التكليف، كان خير مبشر الى انّ الحكومة لن تولد بالسهولة المتوقّعة.
فـ"العرف" الذي يريد ان يفرضه الرئيس نبيه برّي بتمسّك الثنائي الشيعي بوزارة المال، خصوصا بعد العقوبات الاميركية على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، زاد من شدّة العرقلة، ومن حدّة الاتصال الذي جرى قبل ايام بينه وبين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون. ومع انّ التسريبات التي خرجت بعد هذا الاتصال والبيان الذي صدر عن مكتب برّي، لم يتضّح الى العلن كيفية حلّ المشكلة العالقة بين الاصرار الفرنسي من جهة و"تعنّت" الثنائي الشيعي من جهة اخرى.
وفي محاولة -يبدو انّها لم تنجح-، قام بها الرئيس عون لتذليل العقبات من خلال مشاورات مع مختلف الكتل النيابية على مدار يومين في قصر بعبدا، وبالرغم من كل اللقاءات السياسية اليوم الا انّ الدخان الأبيض يبدو انّه عالق في مدخنة القصر، ويبدو انّ اعتذارا اسود سيخرج بدلا منه، ما ينذر بأبعاد سياسية واقتصادية صعبة جدا وغير مسبوقة في المشهد اللبناني.
الأعراف ستتقدّم على القوانين... "بالقوّة لا بالحوار"
في المشهد السياسي اوّلا، انّ اعتذار اديب عن تأليف الحكومة سيعزّز المحاصصة الطائفية والسياسية في مراكز التنفيذ والقرار في الدولة على حساب الوطن والشعب، في حين كان الشارع المنتفض منذ سنة تقريبا يسعى الى الغاء هذا المنطق وارساء مبادئ وقيم سياسية مختلفة عنه. وفي وقت تسعى فيه الفتنة الى ايجاد مكمن لها في لبنان، انّ مثل هذا الوضع قد يشكّل لها ارضا خصبة، بالتزامن مع تأجيج الصراع الداخلي بين مختلف الافرقاء اللبنانيين وانعكاسها على الشارع؛ وآخر مثال على ذلك هو ما حصل قبل ايام في محيط المبنى المركزي للتيار الوطني الحر في ميرنا الشالوحي، وتراشق الخطابات الاستفزازية والاتهامية.
واذا رحنا أبعد من ذلك، انّ رفض المداورة بين الوزارات من قبل اطراف من دون سواهم، -وهو بالمناسبة احد اسباب العرقلة- سيكرّس الأعراف على حساب الدستور والقوانين عن طريق فرض القوّة والتهديد والعرقلة، لا عن طريق الحوار والاجماع الوطني، ما سيشكّل نقطة التباس كبيرة في هوية الكيان اللبنانية وديمومته.
عرقلة التأليف ستسرّع عملية "رفع الدعم".. والدولار "سيطير"
بالانتقال الى المشهد الاقتصادي، إن "طار تأليف الحكومة" ستطير الاصلاحات معه، وهي التي يعوّل عليها في هذه الفترة العصيبة والمرحلية من اجل انقاذ ما تبقى من اقتصاد البلد، ولإنعاش الاسواق و"جيبة" المواطن الذي فقد امواله في المصارف. وتشكّل هذه الاصلاحات التي للأسف سيتمّ ترحيلها لطالما مشكلة التأليف لم تُحلّ، قاعدة ذهبية واساسية من اجل استمرار دعم المصرف المركزي شراء المواد الاستهلاكية الاساسية (طحين وقمح، محروقات، دواء،...)، في حين تؤكّد مصادر LebanonOn انّ الوضع لن يتحسّن قبل تنفيذ المشاريع الاصلاحية في البلاد، وانّ عرقلة تشكيل الحكومة او حتّى عرقلة عملها سيسرّع من عملية رفع الدعم، خصوصا انّ المصرف المركزي قد اعطى مهلة 3 اشهر فقط لمحاولة ايجاد الحلول المناسبة.
وستترافق عملية رفع الدعم هذه، مع إرتفاع جنوني للدولار الاميركي حيث سيصل حتما بحسب الخبراء الى ارقام قياسية قد تتخطّى عتبة الـ10 آلاف ليرة. وقد تشهد بمقابل ذلك، عملية انهيار لليرة اللبنانية بحد ذاتها بسبب التضخّم الذي قد ينتج ازاء هذا الوضع.
فرنسا: الخطة "ب" ام العقوبات؟
ومن فرضية تبعات "اعتذار أديب"، الى فرضية "سيناريوهات ما بعد الاعتذار"، لا يمكن لفرنسا التي رسمت لنفسها دور البطل في لبنان ان تخرج بصورة المهزومة، لا سيّما وانّها تتزعّم محورا بارزا واساسيا في حرب المتوسط النفطية. لكن ماذا يمكن ان يفعل ماكرون في مثل هذا الوضع؟
لا بدّ لفرنسا ان تكون قد وضعت خطّة "ب" لجهودها المستجدة على الساحة السياسية اللبنانية، وهي العارفة بكل تفاصيل التركيبة والعوائق التي قد تعرقل عملها. ومع انّها لوحّت بفرض عقوبات على مسؤولين لبنانيين في حال لم يحوّلوا تعهّدهم الى افعال، الا انّها بالتأكيد لن تبقى فقط على خطوة العقوبات لتفعيل دورها في لبنان خصوصا انّها ترى انّ لا جدوى منها سوى التضييق على الشعب اللبناني. لكن السؤال الأبرز الذي يُطرح، هل ستلوّح باريس بتصنيف حزب الله منظمة ارهابية بشقيها السياسي والعسكري، في محاولة للضغط على الثنائي الشيعي من اجل التراجع عن "المطالب الحكومية"؟ ام انّ اميركا قطعت الطريق امام ايّ مبادرة فرنسية جديدة بعد الانتقاد اللاذع الذي وجهه مايك بومبيو لباريس بخصوص حزب الله؟
هل يعود الحريري؟
بالرغم من انّ الرئيس سعد الحريري اعلن مرارا وتكرارا انّه لا يرغب بالعودة الى رئاسة الحكومة اقلّه في خلال هذه الفترة، ومع انّ جو تيار الازرق يفيد بأنّ اي شخصية من تيارهم لن تقبل بترؤس الحكومة في عهد الرئيس عون، الّا انّ اسهم الحريري دائما مرتفعة، مع تمسّك الثنائي الشيعي به للمحافظة على "الترويكا" التي تفرضها مثل هذه التحالفات. لكن ماذا عن الميثاقية مع غياب الدعم المسيحي (القوات والتيار الوطني الحرّ) عن دعم الحريري؟ ام ستضغط فرنسا من جديد لحلحة الامور؟
المزيد من العقوبات... والحكومة الى بعد الانتخابات الاميركية
لا يخفى على احد انّ لبنان تفصيل من تفاصيل ايّ اتفاق ستوقّع عليه ايران مع الولايات المتحدة الاميركية. وكل هذا الاتفاق مرتبط بهوية الرئيس الاميركي الجديد ومشروعه للشرق الاوسط. من هنا يمكننا ان نفهم بأنّ الوضع في لبنان سيبقى على حاله او سيسوء اكثر مع احتدام المعركة الرئاسية الاميركية ومحاولة الرئيس الفائز انّ يجعل من لبنان ورقة رابحة بيده، وضاغطة في مفاوضاته مع ايران.
الى ذلك، ستستمرّ الولايات المتحدة بفرض العقوبات على حزب الله وحلفائه من كل الطوائف في محاولة لمنع وصوله اكثر الى مؤسسات الدولة، فيما نبقى نحن الشعب نضرس، بينما المسؤولين لدينا يأكلون الحصرم الاميركي.