تعود الولايات المتحدة الاميركية الى واجهة المشرق العربي من باب العراق العريض، بحلف شبه واضح مع رئيس الحكومة العراقي مصطفى الكاظمي، وذلك بعد مرحلة قرّرت فيها الابتعاد عن الضوء الى حين جلاء الاوضاع في هذه البقعة من الشرق الاوسط. ومما لا شكّ فيه انّ الولايات المتحدة الاميركية، هي القوة الخارجية الاقوى تأثيرا على بلادنا منذ عقود، مع محاولات لدول اخرى لمجاراتها كإيران او فرنسا او غيرهما. فلا تندلع ثورات في بلادنا، ولا تتشكل حكومات، ولا يقوم نظام الا برضاها.
وتخصّص الولايات المتحدة مساحة وافرة في سياساتها الخارجية لهذه المنطقة والانظمة القائمة فيها لتحرّكها بحسب أهوائها ومنطقها وتطلّعاتها، ضاربة بعرض الحائط "حق تقرير المصير".
بالعودة الى العراق، يُتّهم رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بأنّه رجل اميركا، الذي اتت به من جهاز المخابرات العراقي الى سدّة رئاسة مجلس الوزراء، وبقبول ايراني عادي، بعد تعثّر دام خمسة اشهر. ويبدو انّ هذه الاتهامات لم تأتِ من عبث، فالكاظمي هو كاتب في موقع "المونيتور" الأميركي حين كان منفيا اثناء فترة معارضته لنظام صدّام حسين.
الكاظمي رجل اميركا... متورّط في عملية اغتيال سليماني!
وتتجلّى أواصر التشابه بين الكاظمي والطرف الاميركي، في رفض كليهما للسلاح غير الشرعي، والتشدّد على ابقاء السلاح في يد الدولة لا غير؛ وهذا ما اكّده الكاظمي في خطاب تسميته رئيسا للحكومة، فيما وصفت واشنطن حكومة الاخير بـ"الحقيقية". ولا تخفي التقارير "السرية" التي تمّ تسريبها عن اتهام وجّهه "حزب الله العراقي" الى الكاظمي بالوقوف خلف تسهيل الضربة الاميركية التي قتلت قائد الحرس الثوري الايراني قاسم سليماني مطلع هذا العام، حين كان رئيسا لجهاز الاستخبارات العراقية.
وتشير هذه التقارير الى دور كبير لعبته السفارة الاميركية في بغداد عندما كان يتردّد عليها بشكل يومي نظراً إلى الخوف الذي كان ينتابه بعد تلقيه تهديدات متكررة من حزب الله العراقي، بسبب تورطه في عملية الاغتيال.
واثمرت هذه العلاقة المتطورة، اتفاقيات عديدة بين الطرفين جرى التوقيع عليها يوم امس في خلال زيارة الكاظمي واشنطن. وتشمل هذه الاتفاقيات الملفات الاقتصادية والطاقة ومحاربة "بقايا داعش"، ووضع استراتيجيات للتعاون بين البلدين. وبمقابل ذلك، تسعى اميركا الى اغواء الطرف الآخر بوعود الانسحاب التكتيكي من العراق خلال مدة لا تزيد عن 3 سنوات، مع تشديد ترامب على انّ العراق دولة ذو سيادة ولا يجب ان ينتهكها احد، كما لا يجب ان تكون ارضا خصبة لأي من تسول له نفسه بالاعتداء على اطراف خارجية.
المشهد العراقي ومقومات رئيس حكومة لبنان المقبلة
اذا راقبنا هذا المشهد بكل تحولاته وتفاصيله، وقِسناه على المشهد اللبناني الذي يعيش هو الآخر تعثرا في ولادة حكومة جديدة بعد استقالة الرئيس حسان دياب، يمكننا ان نستنتج مقومات رئيس الحكومة المقبل.
وبالفعل، لا يختلف المشهد العراقي عن اللبناني، خصوصا في الفترة الاخيرة: "ثورات، سقوط حكومات، انقسام في الشارع، مطالبات بإنتخابات نيابية مبكّرة..."، ولا يختلف اثنان على انّ الولايات المتحدة عادت الى لبنان مؤخرا بعد طلب فرنسي لمنع سيطرة حزب الله وايران على ما تبقّى من مؤسسات الدولة، والقرار اللبناني. واذا ارادت الولايات المتحدة السير بمشروع "كاظمي" جديد في لبنان، فلا بدّ ان تتركزّ المفاوضات التي ستحتدم قبيل الزيارة الثانية لماكرون الى لبنان في الاول من ايلول المقبل، على اسم مرشّح لا يخاف الحزب، ولا سلاحه بل يدعو علانية الى التخلي عن "الميليشيا"، وسحب اي غطاء سياسي عنه، ودعم العقوبات المفروضة عليه وعلى حلفائه. الى ذلك، يبدو انه سيكون للتهديد بالتوجه شرقا (الصين، ايران، روسيا)، وقع ايضا في المفاوضات. وعلى غرار العراق، سيقع على عاتق رئيس الحكومة المقبلة ان يقود لبنان الى الغرب بإتفاقيات تعاون جديدة تشمل الاقتصاد والامن، والرضوخ الى شروط صندوق النقد، والاستسلام الى ديون "سيدر".
اضافة الى ذلك، سيكون للإسم الذي ستوافق عليه اميركا، ليونة في التعاطي مع ملفّ ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل الذي ترعاه الولايات المتحدة عن كثب.
لكن هل سيقبل حزب الله وخلفه ايران بأن "يأتيا بدبّ الى كرمهما"؟ هل ستسمح ايران بتسليم الولايات المتحدة ورقة رابحة اخرى في وقت تذهب الدولاتان الى اتفاق نووي جديدة وبأوراق كثيرة؟ هل ستبقى الولايات المتحدة على وعدها لـ"ماكرون" ولا تقلب الطاولة؟ اسئلة كثيرة تطرح مع دخول المنطقة في مرحلة مشحونة بالتصعيد، والعقوبات، والحروب الباردة؛ وتبقى الاجابات رهن تطورات اللحظة الاخيرة.