مارون يمّين
يبدو انّ الحرب الباردة التي تدور على ارض لبنان بأياد دولية تعيش في أوجها اليوم. ويبدو ان انفجار المرفأ زاد في هذه الحرب شرارة حارقة فجّرت المنافسة الدولية بين العديد من الأقطاب والدول؛ وأصبح لبنان على بعد خطوات قليلة من دخوله رسميا نادي الدول المتنازع عليها على غرار سوريا والعراق وليبيا وغيرها.
وكما بات معلوما وعلى لسان كثرٍ، ما بعد 4 آب ليس كما قبله. فأوّل احتدام علنيّ في المواقف الدولية بعد انفجار مرفأ بيروت، تجسّد في التصاريح والردود التركية الرسمية على زيارة الرئيس الفرنسي الى بيروت بعد يومين من وقوع الانفجار. واذا ما نظرنا الى العلاقة الوطيدة التي تجمع فرنسا بلبنان عبر التاريخ وفي الكثير من المواقف، نسأل هنا ما الغاية التركية من هجومها "الشرس" على الرئيس ماكرون وكأن الاخير "اخذ من تركة الحكم العثماني شيئا ما".
وامام هذا التراشق الفرنسي التركي، نسأل عن السبب الذي حوّل تركيا الى دولة "حميمية" مع لبنان، في حين يأتي الى اذهاننا تصريحات مسؤولين لبنانيين حذّروا من تمدّد تركي أمني ومالي وسياسي في لبنان، الى جانب الكثير من المقالات السياسية التي تتحدّث عن نية تركيا في توسيع نفوذها في بلدنا. لكن السؤال الذي يتوارد إلينا: هل تقف المخابرات التركية خلف انفجار مرفأ بيروت؟
ما سنشرحه ادناه، هو بمثابة إخبار الى القضاء والسلطات اللبنانية التي تحقق في ملف الانفجار.
الباخرة "روسوس" غيرت طاقمها في تركيا لسبب مجهول
في العام 2013، توقّفت الباخرة "روسوس" في مرفأ بيروت قادمة من جورجيا في طريقها إلى الموزمبيق، وكانت محمّلة بمادة نترات الأمونيوم الكيميائية بكميّة قدّرت بـ2750 طنّ. انّ هذه الرواية الرسمية لكيفية وصول الباخرة الى لبنان لم يشكّك بها احد الى حين تصريح قبطان السفينة بوريس بروكوشوف لوسائل اعلام لبنانية انّه تم تغيير طاقم السفينة في تركيا مؤكداً أنه "لا يعرف لماذا". وفي تفاصيل الرواية، انّ سفينة "روسوس" قد غرقت في بحر لبنان عام 2018 بعد تفريغ حمولتها بسبب التصدّع الذي كانت تعاني منه وهو احد الأسباب التي ادّت الى حجز السفينة في بيروت وما تحمله على متنها.
لا تخلو هذه الرواية من سلسلة من الاسئلة المشبوهة التي يمكن طرحها: لماذا تمّ تغيير الطاقم؟ ولماذا جرى هذا التغيير في تركيا؟ وهل فعلا كانت السفينة "متصدّعة"؟ وهل غرقت من تلقاء نفسها؟ واخيرا، لماذا توقفت في لبنان؟
لمحاولة الاجابة عن هذه الاسئلة، سننطلق من سلسلة تغريدات للصحافي التركي محمد جانبيكلي كان قد نشرها في 18 شباط من العام 2019، ايّ قبل سنة ونصف تقريبا من وقوع الانفجار المهول في مرفأ بيروت.
الأمونيوم كان يهرّب من "بالق أسير" الى لبنان بدعم من "فتح الله غولن"
يقول جانبيكلي في تغريداته التي سبقت الانفجار بسنة ونيّف انّ "القصّة بدأت من مصنع صغير لإنتاج نترات الامونيوم في منطقة "بالق اسير التركية" لصاحبه إسماعيل ياواشجا؛ لكن سرعان ما تضخّم المصنع بشكل ملفت للإنتباه بعد ان تبيّن ان انتاجه يحوّل الى التصدير لا الى الاستهلاك المحلي".
ويؤكّد جانبيكلي انّ "المصنع يبيع اكبر كميات انتاجه الى لبنان ومصر"، وهذا ما تؤكّده بالمناسبة تقارير صحفية تركية صادرة في العام 2016 بدعم من جماعة فتح الله غولن المعادية لأردوغان والتي حاولت الانقلاب عليه في نفس العام. ويقول الصحافي التركي انّ "ما لاحظه جهاز الاستخبارات التركية هو انّ طريق ماردين الواقع على الحدود مع سوريا حيث كان يقبع الاكراد، كان مخصصا لإرسال مئات الشحنات من الأمونيوم لدعم الهجمات التركية على اردوغان وتنفيذ العمليات الارهابية في الداخل التركي".
ويؤكّد جانبيكلي انّ ادارة الجمارك التركية في ذلك الوقت كانت متواطئة في هذه العملية، وكذلك والي المنطقة حيث كان يتم التأكيد لجهاز الاستخبارات التركي انّ كل الشحنات نظامية". ويتابع: "لكن الصدمة كانت عندما بدأ جهاز الاستخبارات التركية في التحري عن الشركة المستوردة في بيروت، حيث لم يجد سوى مكتب فارغ ولوحة معلقة على الباب لا اكثر". ويشدّد في احدى تغريداته على انّ "شحنات الأمونيوم كانت توجّه الى سوريا الى حزب الاتحاد الديمقراطي، وحزب العمال الكردستاني"، فيما تشير صحيفة "ديلي صباح التركية" الى انّ "وحدات حماية الشعب" كانت تستفيد من هذه الشحنات ايضا.
وهنا لا بدّ من الاشارة الى انّ الحدود بين لبنان وسوريا في فترة دخول الأمونيوم الى لبنان عام 2013، لم تكن مضبوطة بالكامل، بل كانت مسرحا للصراعات بين الجيشين اللبناني والسوري وحزب الله من جهة، وعناصر جبهة النصرة وداعش من جهة اخرى، ما يسمح بعمليات التهريب عبر الحدود. ويشير جانبيكلي الى انّ "الاستخبارات التركية قد وجدت فعلا مخازن ومخابئ عديدة تابعة لحزب العمال الكردستاني تحتوي على كميات كبيرة من نترات الامونيوم".
وبالعودة الى مصير اسماعيل ياواشجا صاحب المعمل المنتج للأمونيوم، يؤكّد الصحافي محمد جانبيكلي، وكذلك تقرير "ديلي صباح"، انّه جرى توقيفه بعد عملية استيراد واسعة من الهند شملت مليوني فتيل متفجّر.
عوامل تدعم الرواية المزعومة
انّ الكثير من عناصر الحادثة لا تزال مبهمة حتى الساعة، ما يثير الشكوك وما يدعم الرواية التي وثّقها الصحافي محمد جانبيكلي في سلسلة تغريداته. فلم يعلن أحد قط ملكيته للمواد التي تسببت بالكارثة، ولم يوضح احد لماذا تمّ تحميل هذه السفينة التي وصفت بـ"المصدّعة والمهترئة" بمواد بغاية الخطورة، ولماذا تمّ تركها تغرق في حين كان عليها العديد من علامات الاستفهام. فهل كان الأمر مقصودا؟
وما يثير الريبة ايضا، هو التناقض في التصاريح التي خرجت من دولة موزمبيق، حيث اكّد المتحدث باسم الحكومة الموزمبيقية فيليماو سواز للصحافيين بعد اجتماع لمجلس الوزراء الاسبوع الفائت، انّ شحنة الامونيوم التي توقفت في بيروت كانت تخصّ الشركة الموزمبيقية الخاصة "فابريكا دي إكسبلوسيفوس دي موسامبيك"، في حين تؤكّد سلطات ميناء بيرا (الوجهة التي كانت مقررة لترسو فيها السفينة) في بيان لها انّ هيئة تشغيل الميناء لم تكن على دراية بأن سفينة "إم في روسوس" في طريقها إلى ميناء بيرا، وانّ وصول أية سفينة للميناء يتطلب إعلانا من وكيل هذه السفينة لهيئة تشغيل الميناء قبل موعد الوصول، وهذا ما لم يحصل.
بموازاة ذلك، لم يخرج اي تصريح رسمي من دولة جورجيا التي انطلقت منها السفينة، ما يطرح سؤالا بارزا: "ما هو الدليل الذي يثبت انّ السفينة كانت محمّلة بنترات الأمونيوم منذ انطلاقتها في جورجيا؟"، فيما تبقى المعضلة الأساسة بعد كل ما تقدّمنا به متمثّلة بالسؤال التالي: لماذا بقيت هذه الشحنة طيلة هذه الفترة؟
من المتورّط في لبنان؟
للاجابة عن هذا السؤال لا بدّ من التطرق الى نقطتين. انّ بقاء هذه الشحنة في بيروت طيلة هذه الفترة قد يعود الى التشديد الذي فرضه جهاز الاستخبارات التركية على المهرّبين، فيما تمّكن لبنان وسوريا معا من ضبط حدودهما؛ ما يفسّر ايضا انّ الـ2750 طن من الامونيوم لم تنفجر بأكملها وانّ كمية منها جرى استهالكها. فهل هذه الكمية قد هُرّبت فعلا الى سوريا قبل التشديد وضبط الحدود وبقيت الكمية الاخرى في المرفأ الى يوم انفجارها؟
امّا النقطة الثانية، فهي انّ هناك طرفا ما تقصّد إبقاء هذه المواد في المرفأ لغاية بنفس يعقوب. وفي كلتي الحالتين، السؤال يطرح نفسه: من المتورّط في لبنان؟ ومن قام بهذه التغطية طيلة هذه المدّة؟
انفجار المرفأ معركة في حرب "حوض المتوسط" الجديدة؟!
بالإنتقال الى الشقّ التحليلي من الرواية، نجد انّ المخابرات التركية كانت على علم بأنّ لبنان استورد شحنات الأمونيوم من اراضيها، بإسم شركة وهمية. وفي ظلّ الحضور السياسي والديبلوماسي التركي في لبنان مؤخرا، وفي ظلّ عرض تركيا لإعادة اعمار مرفأ بيروت والاستثمار فيه على مدى 25 سنة، وفي ظلّ وضع تركيا مرفأ مارسين بخدمة لبنان، وفي ظلّ التراشق التركي الفرنسي، وبناء على ما تقدّمنا به، هل من دور تركي يمكن استشفافه قي تفجير مرفأ بيروت في اللحظة التي تتصاعد فيه الحرب النفطية والبحرية في حوض البحر المتوسّط؟