ابراهيم الأمين - الأحبار
بعد خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005، جرت انتخابات نيابية، واكتسح خصوم سوريا من المسيحيين معظم المقاعد النيابية المسيحية. يومها علّق نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام بالقول: «ما حصل لم يكن مفاجئاً لأننا كنا نفرض، عن سابق تصور وتصميم، تمثيلاً لهؤلاء كما نريده نحن، ولم نترك لهم أن يختاروا تمثيلاً على صورتهم».
هذا المثل ينفع اليوم في مقاربة ما يجري في سوريا بعد سقوط حكم البعث، اذ تقتضي العقلانية الإقرار بأن الشعب السوري يريد أن يختار تمثيلاً كما يريده هو، وليس كما يريده الآخرون. وهو أمر قد يساعد في طبيعة النقاش الجاري خارج سوريا حول مستقبل هذا البلد، ونقاش قائم فعلياً بين من هلّلوا لسقوط بشار الأسد ومن أغاظهم انتصار معارضيه. وهنا تبرز حقيقة أن أولويات السوريين مختلفة تماماً عن أولويات الآخرين. وإذا حصل تقاطع أو تطابق، فهذا لا يلغي أن ما يهتمّ به من هم خارج سوريا ليس بالضرورة هو ما يهتمّ به الشعب السوري في هذه اللحظة من تاريخه.
بهذا المعنى، قد يكون صعباً على كثيرين انتظار أجوبة عمّا يفعله السوريون في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي لأراضيهم، وما هو موقفهم من الهجوم الجوي والبحري، الذي أدى، خلال 48 ساعة فقط، الى تدمير كل القدرات التي كانت تسمح لسوريا بأن تتحدث عن أنها تملك جيشاً حقيقياً. وصعوبة الأمر تكمن في أن ما دمّرته إسرائيل هو ملك للشعب السوري، ولا يخصّ البعثيين ولا بشار الأسد، وأن الجيش السوري أسّس قبل عقدين من وصول البعث الى الحكم. وما حصل مثّل أول رسالة أميركية - أوروبية - إسرائيلية الى السوريين، مفادها أنه ممنوع عليكم بناء جيش قوي، تماماً كما فعل الأميركيون بعد غزو العراق، عندما قرروا حل الجيش العراقي بمساعدة مجموعة من السذّج والعملاء الذين تعاملوا مع جيش العراق على أنه قوة تخصّ البعثيين فقط.
بضعة اتصالات مع أصدقاء من مستويات مختلفة في سوريا، بينهم من هم في فريق الحكم الجديد، تكشف أن العدوان الإسرائيلي ليس غائباً عن اهتمامهم، لكنه بالتأكيد ليس في رأس الأولويات الآن. هذا إذا لم يعاجلك أحدهم بالقول: «ركّز أنت على إسرائيل واتركنا نتابع مشاكلنا». فالأولوية لدى الغالبية الساحقة من السوريين تتعلق بنتائج التغيير الهائل، وعيونهم شاخصة على التبدّل الذي سيصيب حياتهم اليومية. وهم يرون – أعجبنا الأمر أو لا – أن الأهم هو التخلص من كل التركة السابقة، وبعضهم يرى في الجيش مصدر تعب وقهر، ولذلك لن يكون آسفاً بقوّة على ما قام به العدو الإسرائيلي.
لكن علينا أن نكون أكثر عدلاً في المقاربة، فمثلما نسأل الحكم الجديد عما يريد فعله في مواجهة اجتياح العدو، فالواجب أيضاً أن نسأل من هم في صفّ الحكم السابق، أو من هم حلفاء لقوى المقاومة، عمّا يقومون به، أو سيقومون به في مواجهة العدوان، لأنه ليس منطقياً عدم توفر عشرات من الشباب السوريّين الذين يملكون السلاح المطلوب لمواجهة العدو، ويعرفون أن المعارضة المسلحة بحجمها الحالي لا يسمح لها بالإطباق على كل شيء، وبالتالي، فإن بمقدورهم، لو أرادوا، أن يجدوا سبيلهم لملاقاة قوات الاحتلال وقتالها. لكن، وقبل أن يخرج أحد بإجابة ملقياً الحجّة على من هو في الحكم اليوم، فإن هذا الـ«أحد» يكون كمن يريد إخفاء حقيقة تبدّل أولويّاته هو الآخر.
كما نسأل الحكم الجديد عن موقفه من العدوان الإسرائيلي علينا أن نسأل حلفاء المقاومة عن عدم صدّهم للاجتياح البرّي ومقاومته
عملياً، نحن أمام مشهد مختلف نوعياً عما كان عليه قبل أسبوع. ونقف أمام أولويات من نوع آخر، حيث يصعب الحديث عن توافقات كبرى حول مستقبل سوريا وموقفها من الصراع العربي – الإسرائيلي، كما سنجد أنفسنا جميعاً أمام أسئلة لا تقلّ قساوة، عندما نبدأ بتلمّس نتائج التحول الاقتصادي البنيوي في سوريا، حيث يريد الحكام الجدد إطلاق «المناخ التنافسي» كما أبلغوا من قائد هيئة تحرير الشام أحمد الشرع، ومحاولة التمثل بنماذج مثل لبنان وتركيا ودبي، كما قال وزير التجارة في حكومة الأسد الأخيرة لؤي المنجد في رسائل صوتية بعث بها الى أصدقاء في سوريا وخارجها. ذلك أن تحوّلاً بهذا الحجم سيقود سوريا الى أوضاع مقلقة، لا تخصّ شعبها فقط، بل تخصّ الإقليم أيضاً، وخصوصاً لبنان والأردن.
وبالتالي، فإن النقاش، حتى يستوي، يستوجب منا التعامل بواقعية مع ما يرغب فيه السوريون، حتى ولو كان خلافاً لقناعتنا، لأن البعض قد يصدم عندما يسمع جماعات في جنوب سوريا تطالب بسلام فوري مع إسرائيل، وقد تخرج الى العلن مناشدات من هؤلاء لإسرائيل بأن «تعالي وافرضي علينا احتلالك أو حتى ضمّك، لكن وفّري لنا الأمان والطعام». سيحصل ذلك، في وقت يخيّم فيه «الخوف» على جماعات أخرى في غرب سوريا أو وسطها، وهي جماعات قد تسارع الى رفع الصوت، طالبةً حماية دولية خشية تعرّضها للإبادة. بينما ينتظر كل من لبنان والعراق والأردن أيضاً حصته من الناتج الفوري لما حصل، حيث تستعد مجموعات «داعش» الناشطة في البادية السورية للسعي الى استغلال الفرصة من أجل الانتقام.
والواقعية هنا لا تفرض علينا التسليم بالوقائع، لكنها تفرض علينا أمرين. أحدهما يتعلق بمراقبة ما يجري في سوريا، والابتعاد قدر الإمكان عن التدخل في شؤون هذا البلد كوننا لا نريد له أن يتدخل في شؤوننا، والثاني يتعلق بالاستعداد للتعامل مع النتائج السياسية والأمنية والاقتصادية للتغيير الكبير الذي حصل في بلاد الشام. وفي الحالتين، علينا أن ننطلق من كوننا نحن، سواء كنا لبنانيين أو عراقيين أو فلسطينيين أو أردنيين، لسنا أصلاً على موقف واحد ممّا يجري. ولدينا انقسام كبير حول أيّ موقف نتخذه من هذا التحوّل، ويوجد بيننا من ينتظر الرياح الشامية.
من يقف معنا في صف المقاومة، عليه الرهان والعمل من أجل تعزيز الموقف المعادي لإسرائيل عند غالبية السوريين، وأن يعمل على إقناع السوريين بأن الاستقلال الفعلي، والاستقرار الدائم، والنموّ والازدهار، لا يمكن أن تتحقق من خلال هدنة أو صلح مع العدو. وعلينا أن نتعامل مع حقيقة أن إسرائيل تجد نفسها مضطرّة لتبرير ما تقوم به، بالقول: «نحن أمام حالة من اللايقين إزاء ما سيحصل في سوريا، وما ندمّره هو قدرات لا نريد أن تقع في الأيدي الخطأ». أي أن إسرائيل ليست حاسمة في تقديرها لطبيعة الحكم القادم على سوريا، ولا هي قادرة منذ اللحظة على حسم أن الحكم الجديد سيكون مستقراً. وفي حال كان كذلك، فهي لا تضمن أن لا يكون معادياً لها. وهذا بحدّ ذاته يمثّل نقطة مهمة في نظرتنا الى سوريا.
واضح أن أخطر ما ينتظرنا، نحن والسوريين، هو حصول الاصطدام الكبير بين أولويات الشعب السوري وأولويات محيطه، ليس فقط لأن في ذلك مصلحة لإسرائيل، بل لأننا نعي جيداً الموقع الذي تحتلّه سوريا في هذه المنطقة من العالم.