عزت ابو علي - LebanonOn
منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى قبل تسعة أشهر عوَّلت حركة حماس على الشارعين العربي والإسلامي لتشكيل قوة ضغط تقلب بها موازين الصمت التي اعتادت عليها.
لكن الحركة أُصيبت بخيبات الأمل المتكررة رغم توجهها باستمرار لعمقها الأيديولوجي لإحداث تغيير ما، فالقارىء بين سطور خطابات الناطق باسم الحركة في قطاع غزة "أبو عبيدة" يُدرك جيداً أنَّ المُلثم الذي بات رمزاً للملايين استنفد محاولات أسلمة القضية الفلسطينية وشكَّل طول أمد المعركة لديه فرصة ثمينة للتوجّه نحو العالمية.
في خطابه الأخير بدا "أبو عبيدة" مُرهقاً بخيبات الأمل المتلاحقة من الصمت المُطبق للشارعين العربي والإسلامي، ثم تلا خطاب المُلثَّم بيان لحماس دعت فيه العالم كله إلى التظاهر رفضاً لمجازر الاحتلال وللمطالبة بوقف الحرب على قطاع غزة.
على مرّ العصور لعبت القضايا الدينية والإثنية دوراً كبيراً في تأجيج الصراعات البشرية، ولا يمكن إنكار وجود عوامل تاريخية وثقافية مختلفة وراء النزاعات على الأرض والموارد والثروات. وبتحليلٍ لـ "تديين" الصراع العربي مع الاحتلال الإسرائيلي فإنَّ ذلك وفَّرا كل العناصر والمقومات لتحويله إلى حلقة مفرغة من التشنجات الحضارية والسياسية الناتجة عن توظيف الدين في القضية، حيث تمخَّضت التيارات الأصولية في إسرائيل وتعزَّز وجودها فنجحت هذه التيارات بالترويج عالمياً بأنَّ صراع إسرائيل ليس مع حقٍّ سليب للشعب الفلسطيني بل معركة مع أصوليات دينية مختلفة سُنيَّة كانت أم شيعية.
في معركتها الأخيرة مع إسرائيل أدركت حركة حماس التي خلعت ثوب الارتباط الأيديولوجي عندما قرَّرت أن تتحوَّل إلى حركة تحرر وطني فلسطينية، وهي ترى الملايين في شوارع أوروبا تخرج اعتراضاً على مجازر إسرائيل وكذلك في الولايات المتحدة الأميركية حين ثارت الجامعات بطلابها ونيويورك بيهودها ضد إسرائيل، أنَّ الإدارة العقلانية للصراع، والحكمة السياسية التي تتحرى الحلول الواقعية بعيداً عن الخيارات العدمية وتدمير الذات، هي السبيل الوحيد لتحويل القضية إلى عالمية، وهذا ما تطلب منها تحييد المعتقدات الدينية والمواقف الأيديولوجية ونبذ سياسات الهوية واحتواء نزعاتها، والتركيز على الحقوق الإنسانية والمصالح الموضوعية والمكاسب الحقيقية سعياً للوصول إلى تسويات عادلة تضع حداً للخسائر وتنصف المظلومين وتمنح المقهورين الأمل وتكبح جماح الطرف المعتدي.
لا تؤكد هذه السطور تغييب الدين بشكل كلي عن خطابات حماس بعد طوفان الأقصى، لكنها ومن خلال استصراخها العالم بعد الخيبات، تأكَّدت من أنَّ إصرار أنظمة الإسلام السياسي في المنطقة على أسلمة الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، باعتباره صراعاً دينياً ووجودياً وأبدياً بين المسلمين واليهود، لم يكن إلا للاستثمار السياسي المغلَّف بالأيديولوجيا الدينية وهو ما زاد في تعقيد الصراع وتعميق معاناة الفلسطينيين وتوفير المزاعم الإسرائيلية لمبررات العدوان عليهم.
بيَّنت هذه الحرب أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أخلف بوعوده لمن يصفهم بـ "أخوانه"، حيث خسر الرجل انتخابات محلية لعبت غزة فيها دوراً أساسياً في كبوته حين كشف خصومه للشعب التركي عن استمرار التجارة بين أنقرة وتل أبيب، ثم ما لبث أردوغان بعد الهزيمة لرفع الصوت عالياً تضامناً مع غزة سعياً وراء ورقة استعادة الشرعية والشعبية في الداخل، وأداة لخلق التأثير والنفوذ في الخارج، فأردوغان يُدرك تماماً أن القضية الفلسطينية تُشكِّل رافعة قومية له عربياً وإسلامياً، خاصة وأنَّه خاض التجربة يوم أوفد سفينة "مافي مرمرة" ضمن أسطول الحرية إلى غزة حين اعتدت إسرائيل عليها وقتلت النشطاء الأتراك ما منحه ورقة عبور سلس نحو العقول والقلوب العربية.
أسلمة مظلومية الشعب الفلسطيني هي الأُخرى صبَّت في صالح إيران منذ انتصار ثورتها الإسلامية في العام 1979 ومنحتها الشرعية ووفَّرت لها الغطاء الديني والسياسي لإيجاد نفوذ سياسي وعسكري لها في العديد من الدول العربية، لم تكن تحلم به، منذ أن سقطت امبراطوريتها في القادسية قبل 14 قرناً من الزمن.
ومثلما أنعشت قضية فلسطين أنظمة استبدادية عربية أخذت شرعيتها من المناداة بعروبة القضية، روَّجت الأنظمة الإقليمية التي قامت على الإسلام السياسي لنفسها من خلال الاتكاء على قضية القدس والمسجد الأقصى، فماذا جنت قضية فلسطين من ذلك؟.
كان الفشل حليفها على الجبهتين، داخلياً عبر التنمية الوطنية، وخارجية في إسناد الفلسطينيين ودعمهم لنيل حقوقهم المشروعة، أما الاحتلال الإسرائيلي فنجح بإلغاء التاريخ القريب للتغطية على جرائم الحرب التي مارسها بحق الفلسطينيين، بهدف تكريس سرديته الدينية الأصولية المستمدة من التاريخ السحيق عن الحق اليهودي في أرض الميعاد، بينما الصراع في جوهره هو صراع حقوق بين المُحتل وأصحاب الأرض، وهو ما أدى إلى تغليب الصبغة الدينية للصراع على مضامينه الحقوقية والإنسانية والأخلاقية، بما أتاح مجالاً أوسع للاستثمار السياسي وتحقيق مصالح الأنظمة الإقليمية والتنظيمات الدينية والحكومات الإسرائيلية المتطرفة، واستدعى وكرس التدخلات الدولية في المنطقة.
إنَّ انفكاك أبناء الشعب الفلسطيني عن أدلجة الصراع مع طول أمد الحرب الأخيرة، منحهم اعترافاً وإنصافاً وحقاً بالحياة والكرامة، ورد اعتبارهم أمام العالم بعد أن دفعوا لعقود ثمن سياسات أدلجة الصراع وتعويمه عقائدياً وأممياً، كما غلَّفهم بتعاطف إنساني عالمي لم تنجح القضية الفلسطينية بكسبه تاريخياً، وهو ما يُقرِّبهم يوماً بعد آخر من إيجاد تسوية عادلة وشاملة تضمن حقوقهم كاملة وغير منقوصة، فقضية فلسطين بدأت في الغرب وتنتهي منه.