عزت ابو علي – LebanonOn
حَبَسَ العالم أنفاسه في ليلة تكاد تكون الأطول في العصر الحديث، حين انطلقت أولى طلائع مُسَيَّرات وصواريخ إيران باتجاه إسرائيل، في ردٍّ قالت إيران إنه شرعي جراء العدوان الإسرائيلي على ممثليتها الديبلوماسية في دمشق والذي أدى إلى مقتل عدد من جنرالات الحرس الثوري.
ردٌّ لطالما انتُظِرَ من إيران على مدى عقودٍ من صراعها مع إسرائيل، فقبل ذلك كانت حروب طهران مع تل أبيب تتمّ بالوكالة من جانب حلفائها في المنطقة، لكنها قرَّرت تغيير ذلك إلى المواجهة بالأصالة.
جنَّدت إيران وسائل إعلامها لتغطية ردِّها الأوَّل على أراضي إسرائيل بشكل مباشر، وكشفت ساعات الصباح الأولى عن أنَّ ما جرى يُشبه تماماً كفاءاتها العالية في حياكة السجاد، طول البال والتأني، الترويج بالجملة والنتائج لا تختلف كثيراً عن التعليب، فالتصدي للردِّ الإيراني وتعمد طهران تغييب عنصر المفاجأة لا يُفسَّر إلَّا بأنَّ ما أقدمت عليه كان كان مُنسَّقاً بشكل غير مباشر مع واشنطن وتل أبيب.
في الميزان العسكري لا قيمة فعلية للردّ بناءً على النتائج الميدانية في إسرائيل، فكل ما جرى وباعتراف الطرفين هو إصابة إحدى القواعد العسكرية الإسرائيلية في النقب، بحصيلة لم تتجاوز إصابة طفلٍ بجروح طفيفة.
أمَّا استراتيجياً فإنَّ إيران قالت كلمتها، "نعم أنا أستطيع متى شئت زمانياً ومكانياً"، فإسرائيل لم تختبر هذا السيناريو إلَّا لمرة واحدة فقط في العام 1991 حين أطلق الرئيس العراقي الراحل صدام حسين العنان لصواريخ سكود نحو تل أبيب إبان حرب تحرير الكويت، ونجحت إيران بحشد حلفائها من العراق واليمن ولبنان وبمعنى عسكري تثبيت معادلة "وحدة الساحات"، كما أنَّها تفوَّقت إعلامياً عبر تعظيم خطوتها غير المسبوقة، لتفرض قواعد اشتباك جديدة لن تستطيع إسرائيل بعد اليوم تجاوزها في أي تعامل مع مصالح إيران في الشرق الأوسط.
على الطرف الآخر، اختبرت إسرائيل قدراتها الدفاعية ومدى مصداقية حلفائها، فأظهرت تل أبيب قدرة هائلة عبر منظوماتها الدفاعية الجوية على اعتراض التهديدات وكذلك استنفار الحلفاء لحماية أجوائها خاصة الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والأردن الذي كان نجم الليلة ولم تستطع طهران إخفاء غضبها عن اعتراض عمَّان لهجومها الصاروخي على إسرائيل فأطلقت تهديداتها بشكل مباشر، ونجح رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بتثبيت وعوده لمستوطنيه بقدرة جيشه على حمايتهم، فما انفجر على الأرض مجرَّد سبعة صواريخ من أصل المئات ليُعلن جيش الاحتلال التصدي لما نسبته 99 بالمئة من القدرات العسكرية الإيرانية.
مكاسب نتنياهو لم تقف عند هذا الحد، فهو تمكَّن من إعادة الشارع الإسرائيلي معارضة وموالاة للالتفاق حول حكومته، كما وكسر العزلة الدولية المفروضة عليه وخاصة من جانب الإدارة الأميركية وإظهار نفسه بمظهر الضحية.
في منظور استراتيجي نجح الطرفان في طهران وتل أبيب بتحقيق أهدافهما، رُبَّما لأن الراعي الأميركي يريد ذلك تجنّباً لحرب كبرى في الشرق الأوسط لا تحمد عقباها، ردٌّ إيراني، حماية لإسرائيل والاكتفاء بذلك بالنسبة لأميركا دون الانزلاق إلى الحرب.
لكن هل تقف الأمور عند هذا الحد؟
إيرانياً، تعتبر طهران أن ذلك يكفي بحسب تصريحات مسؤوليها العسكريين، فهي تدرك تماماً أن التصعيد الذي سيدفع واشنطن للدخول بقوتها العسكرية على الخط لن يكون لصالحها على الإطلاق، لكن الأمر في تل أبيب لا يُشبه ما يدور في طهران تماماً.
يرى نتنياهو البارع في استغلال اللحظات لصالحه، أنَّ الفرصة باتت سانحة لانقاذ مستقبله السياسي بعد النتائج الوخيمة لعملية طوفان الأقصى عليه في السابع من تشرين الأول من العام الماضي، ففي اللحظة التي كانت فيها عمليات التصدي تجري لهجوم إيران كان نتنياهو يبحث آلية الردود عليها، وكانت أميركا تستجدي عبر رئيسها جو بايدن عدم التصعيد الإضافي، فنتنياهو يُدرِك تماماً أن هذا الوقت هو الأمثل لابتزاز سيِّد البيت الأبيض، فأمامه مشكلة حزب الله في لبنان ورفح في غزة، ومستقبله السياسي في إسرائيل، وهو سيدفع حتماً لتحصيل مكاسب لصالحه لاختزانها في رصيده الذي يُرَوِّج له أمام شارعه الذي يتحرَّك ضده.
وكما أن الردَّ الإيراني جاء بعد فشل مفاوضات أطلقتها طهران في سلطنة عُمَان لإرساء معادلة وقف الحرب على غزة مقابل إعفاء إسرائيل من ضربة إيرانية، فإنَّ إسرائيل سَتَتَّجه أولاً نحو تحصيل المكاسب قبل اللجوء إلى ردِّ عسكري في قلب إيران، على الرغم من جنوحها نحو الخيار الأول فمن خلال المعطيات الميدانية لا تبدو إسرائيل راغبة في حربٍ شاملة إلَّا إذا استنتج نتنياهو أنها تُحَقِّق له مبتغاه أكثر من تجنّبها خاصة وأنَّه سيُقحِم حليفه الأميركي مُرغماً فيها، ما يعني أنَّ النتائج بناءً على موازين القوى بين المتحاربين لن تجري كما تشتهي سفن إيران.
كل المؤشرات تقول إن الضربة التي أرست قواعد اشتباك جديدة في الإقليم المُشتعل لا محالة كانت مُنسَّقة، وجرى التفاهم حولها بين المتصارعين من خلال قنوات ديبلوماسية وعسكرية غير مباشرة، لكن السؤال الأهم يبقى عن قدرة واشنطن بالتحكّم بكل مفاصل لعبة النار في الشرق الأوسط، وإرساء معادلة رابح – رابح بين المتحاربين لإرضائهم في محاولة تجنّب انفجار برميل البارود أو على أقل تقدير تأخير ذلك؟