عزت ابو علي – LebanonOn
في الرابع من نيسان من العام 1949 وُقِعت في العاصمة الأميركية واشنطن معاهدة شمال الأطلسي التي أعلنت عن ولادة حلف الناتو.
إبان تلك الحقبة كان الصعود السوفياتي يُمثِّل الرعب القادم من الشرق لدول الغرب وخاصة أوروبا، حيث استمرت الدول بالانضمام إلى هذا الحلف ليصل مؤخراً إلى 32 دولة، تتخذ من بروكسيل في بلجيكا مقراً لها.
كشَّر الحلف عن أنيابه عندما حلَّت الحرب الكورية في بداية خمسينيات القرن الماضي، والتي لم تكن حرب أهلية على قدر ما هي صراع بين الشيوعية والرأسمالية والتي كادت أن تتحول إلى حرب عالمية قبل أن تُرسم خطوط التماس في الـ 27 من تموز عام 1953 في قرية بانمونغوم هناك على خط العرض 38 الفاصل بين الكوريتين، لكن دون نزع فتيل الصراع حتى يومنا هذا.
بعد هذا الاشتباك الأول مع المعسكر الآخر، ثارت الشكوك حول قوة العلاقة بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، إلى جانب التساؤلات حول مصداقية دفاع حلف الناتو ضد القوة السوفياتية الهائلة، فاتخذت فرنسا منحى تطوير الردع النووي المستقل وانسحبت من الهيكل العسكري للحلف في عام 1966 لمدة 30 عاماً.
يأتي العام 1989 ويسقط جدار برلين، ليُعلن عن النظام الدولي الجديد الآحادي الجانب، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانكفاء روسيا، فعاد الحلف إلى نشاطه بقوة هذه المرة، فتدخَّل في البوسنة في العام 1992 ثم في يوغوسلافيا في العام 1999، ثم ضمّه للعديد من دول حلف وارسو المُنهار إليه بين عامي 1999 و 2004، وكانت إيساف في أفغانستان عام 2001 آخر ما اتفق عليه الحلفاء قبل تفيعل المادة الرابعة من نظامه التي تسمح للأعضاء بالتشاور قبل الدخول في أية عملية.
تتوالى السنوات، لترى الولايات المتحدة الأميركية التي تُعد القوة الضاربة للناتو عملاقين من الشرق يفرضان السطوة على المسرح الدولي، روسيا والصين.
استمرت الولايات المتحدة الأميركية بالدفع نحو بقاء هذا الحلف، حتى طرحت واشنطن بشكل جدي إبان حكم رئيسها السابق دونالد ترامب الجدوى من هذا الحلف، كان الرجل المثير للجدل جدّي في طرح القضية مما أثار المخاوف الأوروبية، حيث يدرك قادة القارة العجوز أن لا قيمة عسكرية حقيقية للحلف من دون أميركا.
في سنوات حياته الـ 75 احتفل حلف الناتو بذكرى تأسيسه لكن الأعضاء ليس بأفضل حالاتهم المزاجية، حيث يعيشون هاجس عودة ترامب إلى البيت الأبيض الذي يرى أن لا جدوى منه، فهو لا يأتي لواشنطن بشيء سوى بتكاليف إضافية للدفاع عن حلفائها.
في الحقيقة فإن هؤلاء يدركون أن لا قيمة لوجودهم دون الولايات المتحدة، الرئيس الحالي جو بايدن على الرغم من رؤيته بضرورة استمرار الحلف، لكن لا ضمانة لبقائه في البيت وسط مزاحمة ترامب لأي مرشح آخر على أبوابه، والذي يعني وصوله إلى المكتب البيضاوي مجدداً إعادة طرح جدوى الحلف، فواشنطن المرتبطة باتفاقيات خاصة مع العديد من عواصم العالم لضمان مصالحها على كافة الصعد لا حاجة لها من المنظور الاقتصادي والاستراتيجي بحلف يساوي بشتى المفاهيم صفراً دون يدها المبسوطة فيه من أسفله حتى أعلاه ومن أوله حتى آخره.
هذا ما يُفسر الحديث الأوروبي منذ مدة كبيرة عن تأسيس الجيش الأوروبي الموحد على غرار العملة الموحدة، التأشيرة المشتركة والحدود المفتوحة، بالإضافة إلى توجه تركيا التي تعتبر القوة الثانية في حلف الناتو باتجاه صياغة أحلاف جانبية صغيرة بالإضافة إلى الحلف الكبير المُتمثل بمنظمة الدول الناطقة بالتركية.
لماذا كل هذا؟!
يُجمع المتابعون أن عملية روسيا الخاصة في أوكرانيا غيَّرت المفاهيم بشكل كامل، ففي الغرب، تبدو الخشية كبيرة من أن أهداف العملية إذا تحققت في معظمها، فإن طموحات روسيا لن تقف عند هذا الحد، وهذا ما يعني أن النهج السياسي في أوروبا سيشهد تغييرات جذرية، والتاريخ هنا يُعيد نفسه، فقد سبق أن أدى الاعتراف بقوة الاتحاد السوفييتي، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلى إطلاق عمليات سياسية لم تكن متوقعة في جميع أنحاء العالم.
من هنا نستنتج أن تحقيق الأهداف الروسية في أوكرانيا سوف يؤدي إلى حدوث شيء مشابه لمؤتمر يالطا جديد، أي بناء هيكل أمني عالمي حديث بناء على النتائج المُحققة، وبالتالي لن تبقى أية أسباب لبقاء الناتو، خاصة وأنَّ دوله لم تجرؤ لغاية اليوم على قبول عضوية أوكرانيا رغم استجداء رئيسها فلودومير زيلنسكي هذه العضوية الذي يظنّ أنها قد تنقذه من ضربات موسكو، والقناعات الراسخة لدى روسيا بأنَّ الناتو لن يغامر بإرسال قوات قتالية إلى أوكرانيا قد تكون سبباً بوصول ارتدادات الردع الروسي من قواعده في مدينة نوريلسك التي تقع في أقاصي الأرض في مقاطعة كراسنويارسك بمنطقة سيبيريا الروسية إلى آخر عاصمة من عواصم الناتو التي تجرؤ على التأثير بشكل سلبي على مصالح موسكو.
هذا بالإضافة إلى عجز الولايات المتحدة عن تهديد الصين بأكثر من قواتها الموجودة في أوروبا بالفعل، والتي يبلغ تعدادها 40 ألف جندي فقط في حال قررت الصين مهاجمة تايوان، ويأتي ذلك مضافاً إلى قناعة أوروبية من أكثر دول القارة العجوز اكتظاظاً بالسكان، ألمانيا، فرنسا، إيطاليا وإسبانيا، بالعجز عن تأمين العدد الكافي من القوات القتالية، أمام روسيا الشابة، التي ستكون لها الغلبة في ساحة المعركة.
في المُحصِّلة، ولو نجحت الديبلوماسية في التدخل لتجنب كارثة عالمية كاملة، فإن القوة العسكرية الروسية سوف تعود منتصرة إلى أوروبا الوسطى، كما نظيرتها الصينية في شرق آسيا، وبالتالي لن تغامر واشنطن بالصدام مع موسكو وبكين، وعند تلك النقطة، وفي لحظة سقوط قوة ردع الناتو ستنتفي الحاجة لهذا الحلف الذي أدركت راعيته واشنطن بعدم صوابية ظنونها السابقة حول قدرة السلاح النووي على حفظ السلام الدولي، الذي لن يتحقق إلَّا بعدم مساس أي طرف بالخطوط الحمراء للطرف الآخر، ومن ذا الذي يضمن ألَّا تقوم القوى العملاقة الـ 3، أميركا، روسيا والصين بتوزيع المغانم الدولية فيما بينها والترفّع عن مواجهة لن تؤدي إلى انتصار طرف على الآخر بشكل حاسم في محاولة قيادة العالم؟!.