عزت ابو علي – LebanonOn
منذ عقود عديدة شكَّل شهر رمضان المبارك فرصة لشركات الإنتاج لتقديم تجارب تلفزيونية جديدة للمشاهدين، واعتُبرت المسلسلات الرمضانية بأنها المرآة التي تعكس القضايا والتحديات التي يواجهها المجتمع، من خلال القضايا التي تُطرح سواء كانت اجتماعية، ثقافية، تاريخية وحتى سياسية، الأمر الذي وفَّر منصة لتقديم الرؤى المتنوعة للقضايا التي تهم الجمهور.
قبل أحداث الربيع العربي التي بدأت في أواخر العام 2010 وبدايات العام 2011 قدَّمت الدراما لمتابعيها مسلسلات من الواقع المُعاش، وتناولت القضايا الاجتماعية، الثقافية، الدينية، السياسية، النفسية والصحية، وعكست المواضيع حقيقة الواقع، وساهمت في إثراء الحوار الاجتماعي وتوجيه الانتباه إلى القضايا الهامة في المجتمعات العربية.
وتأثَّرت المجتمعات بالقصص والشخصيات بشكل تام، حيث أدَّى ذلك إلى تشكيل الرأي العام، وتوجيه الانتباه لكيفية التعامل مع المستجدات، هذا بالإضافة إلى التأثير على السلوك والتفاعل نفسياً وعاطفياً والأهم من ذلك كله منظومة القيم التي ظُهِّرَت بشكل أكثر من واضح في المجتمعات.
فعلى سبيل المثال كانت مسلسلات رمضان في هذه الحقبة وما سبقها، تجمع العائلة وسط غياب شبه تام لسخونة المشاهد من أية نوع كانت.
في ثلاث دول عربية يتم إنتاج السواد الأعظم من مسلسلات رمضان، سوريا، مصر ولبنان.
ومن الملاحظ وبجردة عامة على الإنتاج الذي كان يُعرض، تفوقت البيئة الحقيقية لهذه المجتمعات وأُسقِطت الأحداث على الواقع الحقيقي دون إغفال اللمسة الدرامية التي لم تؤثر بشكل كبير على تجسيد الحقيقة، التي قدَّمت القيم والتقاليد العربية مثل العائلة، الوفاء، الشرف والكرم، مما أسهم في تعزيز الهوية الثقافية التي تعمَّقت أكثر مع المسلسلات التاريخية الضخمة التي عكست التنوع الثقافي، ويأتي ذلك بالإضافة إلى تصوير الحياة اليومية فشكَّل الإنتاج الرمضاني مصدر معرفة لأفراد عن المجتمعات الأخرى، والتي حُفِرَت في أذهان المتابعين ولا تزال تعيش لغاية الوقت الحالي، كمسلسلات ليالي الحلمية، رأفت الهجان، يوميات ونيس، أرابيسك، لن أعيش في جلباب أبي، عائلة الحاج متولي، مرايا، باب الحارة، زوارة الخميس، الزير سالم، زمن الأوغاد، أبو سليم، الغالبون وسمرا، بالإضافة إلى الإنتاج الكوميدي الصرف والذي زرع الابتسامة الحقيقية على وجوه المتابعين.
هذه الأمثلة التي ذُكِرَت تُعدُّ من أهم ما أُنتج على مر التاريخ لناحية تصوير حقيقة وواقع المجتمعات سواء في مصر وسوريا ولبنان وحتى الخليج العربي.
بعد فترة الربيع العربي تغيَّر كل شيء، فالواقع الجديد الذي عاشته الدول العربية شكَّل طفرة في الأحداث التي يصعُب تجسيدها لعوامل عدة، أهمها النظم السياسية التي تشكَّلت بعد الثورات أو ثَبَّتت نفسها إما عبر الصمود أو ما عُرِفَ بالثورات المضادة.
كان من اللافت أن صُناع الإنتاج لم يكن بمقدورهم مواكبة هذه التحولات وتقديم محتوى يلبي احتياجات المشاهدين في هذا السياق، فكان الاتجاه مطابقاً لما تريده هذه النُظم السياسية أو ما تريد التسويق له شركات الإنتاج التي باتت المتحكم الأول في السوق وسط تراجع أسواق الإعلانات، فبات من يملك المال والسلطة يُطوِّع الإنتاجات كما يريد.
هذا الأمر أوجد النقد الحاد على خلفية طبيعة الإنتاجات ومواضيعها ومشاهدها التي أثارت حفيظة النقاد الذين اتهموا صنَّاعها بالترويج للانفلات الأخلاقي عبر سخونة المشاهد الإباحية وتظهير تجار الممنوعات والبشر وبائعي الأوطان وأصحاب المشاكل بالأبطال فضلاً عن تبخيس المرأة والعنف، وهذا ما أسهم بحسب رأيهم ورأي العديد من الجماهير بضرب منظومة القيم وذهب البعض منهم أبعد من ذلك عندما طالبوا بعدم عرض هذه الإنتاجات في رمضان احتراماً للشهير الفضيل وتأجيلها إلى أوقات لاحقة مع ضرورة وسم المنتج بـ +18.
وراجت أيضاً العديد من المسلسلات التي تحدَّثت عن التطرف، وعلى الرغم من أهميتها لناحية التوعية على مخاطر هذه الآفة، إلَّا أنها كانت بعيدة عن الواقع الحقيقي ووضعت في قفص الاتهام على خلفية الترويج لبعض القيم التي أرادت النُظم السياسية وصُنَّاع الإنتاجات ومن يمولهم تسويقها، وهو ما وصل حد تشويه صورة الدين لا المتطرف بالإضافة إلى مظلومية أصابت بعض الجماعات الذي أراد البعض طبعها بطابع التطرف وتبعاته، حتى الكوميديا التي اشتُهِرَ بها الإنتاج الرمضاني غابت لصالح أمور أخرى، دون إغفال بعض الإنتاجات الكوميدية التي ابتعدت كل البعد عن ملامح الميلودراما الذي يعيشها الشارع العربي برمته خاصة سوريا، مصر ولبنان.
في مقارنة بين الأمس الحقيقي واليوم المُزيف، يظهر الاشتباك الحاد بين الأعمال الدرامية والواقع الاجتماعي، الكثير منها منفصل بشكل تام عن الواقع، لا بل تُتهم بأنها من عالم الخيال، وحتى دفاع المنتجين عن أنفسهم بأن ما يعرضونه لا يختلف عن الآفات المجتمعية التي لا بد من تسليط الضوء عليها، فإن ما يُعرض طغى على الواقع الحقيقي المُعاش بشكل أصبح الإنتاج يُعطي انطباعاً أن ما يُعرض هو السِّمة الغالبة على المجتمعات لا الحالة المحدودة المعروضة بشكلها المُضَخَّم.