عزت ابو علي – LebanonOn
مع انطلاق ما يُسمى بـ "الربيع العربي" نجح الإسلاميون بتحقيق ما عجزوا عنه خلال مسيرتهم التي امتدت لعقود من الزمن.
سيطرت الحركات التي ولدت من رحم الأخوان المسلمين على قصور الرئاسة في تونس وليبيا ومصر، وصولاً إلى المغرب حين فازوا بالانتخابات البرلمانية وأجبروا الملك على تسمية أحد قادتهم "سعد الدين العثماني" لرئاسة الحكومة، وليس انتهاء بسوريا حين حاز الإسلاميون على قبول شعبي قبل أن تذوب الحركة في أفخاخ المنظمات الإرهابية.
مسيرة الحكم لم تدم طويلاً، حيث شكَّل العام 2013 بداية السقوط الحر للإسلاميين في المنطقة العربية، بعد سنتين من وصولهم إلى السلطة، الأمر الذي صدم كل المراقبين الذين ظنوا أن الاستمرار بات حتمياً، خاصة وأن الإسلاميين عرفوا كيف يستفيدون من تبعات هذا الربيع، وغادر الأخوان قصور رئاستهم تارةً بثورات قالوا إنها مضادة وبالانتخابات التي أوصلتهم ذات مرة إلى السلطة ومن ثم خلعتهم تارةً أُخرى، لكن هذا الفشل الذريع لم يكن كافياً لإعادة تقييم داخلي تُجريه قيادة الحركة وأجنحتها، بل، سرعان ما تكاثرت أخطاء الأخوان، وأفقدتهم التراكمات جزءاً كبيراً من حاضنتهم بعد خساراتهم المتتالية للسلطة في بلدان عدة.
وبعد عشرة أعوام على التقهقر، جاءت عملية طوفان الأقصى، فرأى قادة الجماعة أنها طوق النجاة لهم، لينشطوا بمواقف متقدمة بشكل كبير عن أنظمة الحكم المتخاذلة، الأمر الذي دفع من انقلبوا عليهم شعبياً في السابق لإعادة المقارنة بينهم وبين أنظمة الحكم الحالية، وساعدهم في ذلك ارتباطهم الروحي والأيديولوجي بقضية فلسطين عموماً وبحركة حماس التي تُدير الصراع على وجه الخصوص، وبعدهم عن مراكز القرار في دولهم الأمر الذي لم يشكل لهم إحراجاً مع القوى الغربية.
أعاد هذا الأمر إلى الأذهان استفادة الحركة الإسلامية من نكسة حزيران في العام 1967، بعد عقود من صراعهم مع الأنظمة العربية خاصة مع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، حينما انتشرت في العالم العربي وقتها ما عُرف بظاهرة "الصحوة الإسلامية"، فهل تُشكل عملية طوفان الأقصى اليوم محطة مشابهة لتلك الحقبة الزمنية ويعود الأخوان لرسم طرقهم المستقبلية وتصحيح أخطاء العشرية الماضية؟
يقع العديد من قادة الجماعة في خطأ فادح إن ظنوا أن تلك العودة ستتم بشكل سلس، مع فرضيتهم القائلة بإن حركة حماس وُلدت من رحم الأخوان المسلمين، فالمتابع لدقائق تفاصيل حركة حماس وذراعها العسكري "كتائب عز الدين القسام"، يدرك تماماً أن انتماء الحركة إلى الجماعة لم يُشكِّل العامل الرئيسي لتطورها الهائل والرؤى الاستراتيجية لها ولاحتضانها عربياً وإسلامياً، ولو كان الانتماء بمفرده أوصلها إلى ما هي عليه اليوم، فلماذا فشلت باقي أفرع الأخوان في البلدان الأُخرى؟
على امتداد تاريخها لم تُقم الحركة الإسلامية خاصة في مصر التي تعتبر قوتها الضاربة بمراجعة نقدية، خاصة بعد فقدانها السلطة في العام 2013، وجُلّ ما قامت به الحركة أنها قامت بالحديث عن مظلوميتها ومحاولة إقناع الرأي العام بأنها لم تفشل، بل، أُفشِلت عن سابق تصوُّر وتصميم.
لم يدفع ذلك إلى إحداث تغييرات لصالح الجماعة التي أضاعت 10 أعوام من عمرها بالترويج للمظلومية، واكتشفت هذا الخطأ مؤخراً، وعلى لسان مسؤول القسم السياسي فيها "حلمي الجزار"، الذي أقرَّ واعترف بهذا الخطأ القاتل قبل حوالي الـ 6 أشهر، حينما كشف عن أن جماعة الأخوان أنشأت لجنة يتجلَّى دورها بإعداد تقرير وإجراء تقييم شامل للعشرية الماضية، على أن يصدر تقرير مفصَّل بالأمر لِتَبني الجماعة على الشيء مقتضاه.
يُدرِكُ العارف والمُتَعَمق بأمور الأخوان بأن نتائج التقرير المُزمع إصداره، سيتحدث في سطوره الأولى عن "تَجَمّد" الحركة وخلطها بين الأمور الدعوية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وعدم التفريق بينهم، مما أدى إلى صعوبة الولوج إلى الطبقات الاجتماعية الأكثر ثقافة في المجتمعات العربية، حيث تستطيع هذه الطبقات تحصين أية حركة سياسية على جميع المستويات.
نجحت حركة حماس بتجاوز هذه العقبة على عكس أقرانها من الحركات الإسلامية، حين طوَّرت الأداء السياسي وفصلته عن العمل الدعوي بشكل مرن، تبعاً لتطور المجتمع الفلسطيني، فسارعت الحركة في العام 2017 إلى تعديل وثيقتها التأسيسية التي وضعتها في العام 1988 والتي تقول بإن الحركة هي جناح من الأخوان المسلمين في فلسطين، ليُصبح التعريف بالحركة بأنها حركة تحرر ومقاومة وطنية فلسطينية إسلامية، هدفها تحرير فلسطين، ومواجهة المشروع الصهيوني، مرجعيتها الإسلام في منطلقاتها وأهدافها ووسائلها.
لا تتخلَّى حماس هنا عن تبعيتها الإسلامية وعمقها الأخواني، بل، تقدّم نفسها للشعب الفلسطيني على أنها حركة نضال وطني أولاً ومن ثم إسلامية، الأمر الذي مكنها من النجاح بجذب كل الطاقات الفلسطينية نحوها سواء علمانية كانت أم إسلامية، وجنبها السقوط الحر لأقرانها من الحركات الإسلامية في الدول العربية.
نجاح أوصلها إلى عملية طوفان الأقصى، التي أظهرت أن حماس أعادت إحياء مشروع المقاومة الفلسطينية، بعد 31 عاماً من اللهث وراء أضغاث اتفاقية أوسلو، بعيداً عن حدود الأطر التنظيمية والحواجز الأيديولوجية، لتقود مشروع التحرّر الوطني الفلسطيني وينضوي تحت لوائها كل أطياف الشعب الفلسطيني وحتى العربي.
لم تنجح حماس فقط عبر رؤيتها الجديدة بإحداث إحاطة فلسطينية من حولها فقط، بل، عربية أيضاً، ومن أكثر المعادين لحركة الأخوان المسلمين، فدفعت عملية طوفان الأقصى مثلاً كبير المفكرين المصريين " أسامة الغزالي" لإعلان ندمه عن سنوات من المساعي المؤيدة والداعمة للتطبيع مع إسرائيل، حيث كان عضواً مؤسساً في جمعية "حركة القاهرة للسلام" التي تأسست في تسعينيات القرن الماضي، بهدف إقناع المصريين بضرورة التطبيع الثقافي والشعبي مع إسرائيل، لم يُغيِّر الغزالي قناعاته لجهة الخصومة الفكرية التي وصلت حد العداوة مع الأخوان، بل، جذبته عملية طوفان الأقصى للقناعة بالمشروع التحرري الفلسطيني والعداوة مع إسرائيل.
وعلى عكس حماس، فشل الإسلاميون في بلدان "الربيع العربي"، في بناء مشروع وطني، بسبب اقتناعهم بأفكار محصورة بتمكين أيديولوجيتهم بعيداً عن صياغة مشروع وطني جامع، مما أدى إلى استحالة حدوث الانفتاح على أطياف الشعب كافة، وأدى الخلط بين العمل الدعوي والسياسي إلى ضياع المشروع الوطني عبر التحالف مع القوى السياسية العلمانية، بينما نجحت حركة حماس بفصل المسارين عن بعضهما، وتمكَّنت عبر التخصص من تجنب فشل أقرانها، حيث ابتعد الدعاة والمربون عن العمل السياسي واهتموا بعملهم فقط، على عكس ما فعله هؤلاء في بلدان أخرى حينما أصروا على إدارة العملية السياسية دون خبرات كافية فحصل الفشل الذي لم يدخل في حساباتهم وقت اتخاذهم لقراراهم هذا.
وعلى الرغم من اقتدائهم اليوم بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي نجح بالرقص على رؤوس ثعابين العلمانية والقومية المتأصلة في بلاده دون أن يُلدغ، لم ينجح قادة حركة الأخوان المسلمين بالاستفادة من تجربة الرجل القوي، الذي يستمر في هزيمة العلمانيين منذ أكثر من عقدين من الزمن، فهو أمام الإسلاميين متدين، محافظ ومحارب لأجل الدين، وفي نظر أتباع العلمانية هو الخادم الأمين لتركيا ومؤسس الجمهورية الثانية والمقاتل الشرس للدفاع عن قِيَمِهَا، ووضع أردوغان في صلب برامجه عدم التخلي عن حضارة بلاده لكي لا تقع أسيرة لحضارات أُخرى ما أَجبَرَ دعاة القومية على احترامه والتحالف معه، الأمر الذي مَكَّنَه من سحق خصومه عند كل استحقاق انتخابي وشعبي.
من هنا نستنتج أن المرونة والقدرة على المراجعة وتغليب المصالح الوطنية، هي أكثر ما يحتاجه قادة الأخوان اليوم لترميم صورتهم أمام الشعب الذي لم يقتنع بالأداء السابق، فعلى عكس تطلعات الأخوان في مصر وتونس وليبيا والمغرب وحتى سوريا ودول أُخرى، نجح أردوغان وقادة حماس بتطوير الأداء السياسي لِيَصُبَّ في النهاية في مصلحة المشاريع الوطنية تجنباً لدهسهم كما أقرانهم، دون أن يخلعوا عباءة التَديُّن التي خرجوا من تحتها.