عزت ابو علي – LebanonOn
على مر التاريخ شكَّلت الأحياء الراقية للمدن الكبرى في مصر نموذجاً حضارياً وعمرانياً فريداً قلَّ مثيله في الوطن العربي، وارتبطت هذه الأحياء بطبيعة أبنائها الذين تطبعوا بها، وأضحت عنواناً للطبقات الراقية والمثقفة والمتعلمة ومقصداً لكل سائحٍ يبحث عن التاريخ والفن والحضارة.
كان ذلك واقعاً حتى الأمس القريب، لكن الأزمة الاقتصادية في مصر أرخت بثقلها على تلك الأحياء وسكانها حتى باتت عنواناً لقهرهم، وأضحت أطلالاً يبكيها كل من ترعرع في كنفها ليصبح الشغل الشاغل لأبنائها البحث عن مخرجٍ يخلصهم مما باتوا يعيشونه من مآسٍ يومية.
يقول الخبير الاقتصادي المصري وأحد سكان حي النزهة في العاصمة المصرية القاهرة الدكتور مراد منير لـ LebanonOn إن الحيَّ الراقي تأثَّر بشكل كبير بالقوانين فمجلس النواب يخترع كل يوم قوانين جديدة بحجة التقدُّم والازدهار، من قبيل القانون الرامي إلى منع تحويل الشقق في الأبنية السكنية إلى ممارسة الأنشطة التجارية أو الإدارية وغيرها، ويطرح سؤالاً على المعنيين ما هي التسمية للشقق التي تحوَّلت إلى عيادات للأطباء ومكاتب للمحامين والمحاسبين والمهندسين، بالإضافة إلى إنشاء بعض المصانع في الطوابق السفلية لهذه الأبنية والمستودعات.
ويصف منير الواقع السيء في المناطق الممتدة من ميدان العباسية وطول شارع الجيش لغاية منطقة العتبة وشارع بورسعيد وباب الشعرية، ويؤكد أن هذه المناطق كلها استحوذت على ترخيص بغية السكن، ولكنها تحوَّلت إلى محال تجارية ومخازن، تحتوي العديد منها على مواد سريعة الاشتعال وقابلة للانفجار هذا بالإضافة إلى الأحمال الثقيلة التي تؤدي لتصدع أسقف هذه المباني.
ويشكو منير في حديثه لـ LebanonOn من استنسابية المعنيين في تطبيق هذه القوانين إلى حدِّ منع صاحب بناية مثلاً من استثمار حيِّز فيها لكي يفتتح مشروعاً إنتاجياً صغيراً غير تجاري ولا يتضمن البيع والشراء، إنَّما مكتب فقط نشاطه غير مقلق للراحة، كالعمل عن بعد مثلاً، ويلفت إلى أنه بغية تحقيق ذلك على المالك المُستفيد أن يقوم بدفع مبالغ مالية طائلة لإنجاز تسوية لتحويل المكان من سكني إلى تجاري.
ويسخر منير من هذه الاستنسابية ويكشف أن البقاء في هذه الأحياء بات للأقوى، لأن السلطات لن تجرؤ على الاقتراب من شخص "بلطجي"، يحوِّل هذه الأحياء بشوارعها وأرصفتها إلى أماكن لعرض بضائعه دون أن يُسأل من أحد عمَّا يفعله.
ليس هذا فحسب، بل إن أرصفة هذه الأحياء تحوَّلت إلى أماكن لنوم المشردين وتعاطي وترويج وبيع المخدرات والدعارة، هذا بالإضافة إلى السرقات والاعتداءات المتكررة على الأملاك الخاصة من قِبَلِ هؤلاء الناس دون أي تدخل من الشرطة رغم المناشدات اليومية لسكان هذه الأحياء.
وعن أسباب ذلك يوجِّه منير أصابع الاتهام للمعنيين الرسميين الذين صرفوا مئات المليارات من الدولارات بغية استحداث مدن جديدة قبل دراسة جدواها الاقتصادية، فهؤلاء وبعد أن نفذت العملة الخضراء "الدولار الأميركي" من خزائن السلطات الحكومية، باتوا يتغاضون عن هذه الممارسات بغية إجبار سكان هذه الأحياء لشراء عقارات في هذه المدن الجديدة للتخلُّص من هذه الفوضى الخلَّاقة، وبالتالي مدِّ الحكومة بالأموال وإشغال هذه المدن من قِبَلِ سكان جُدُد، فلغاية الآن تفتقر هذه المدن إلى ساكنيها.
في المُحصِّلة، فإن إصلاح الخطأ المُتمثل ببناء مدن جديدة دون دراسة جدواها يتم بكارثة تتجلَّى بإجبار الناس على ترك أحيائهم الأصلية والنزوح القصري نحو هذه المدن المُستحدثة، فهل تصبح الأحياء الراقية في كبرى المدن المصرية امتداداً للعشوائيات وتذوب بها في المستقبل القريب؟!.