عزت ابو علي - LebanonOn
في الثاني والعشرين من تشرين الثاني من العام 1943 أذعن الفرنسيون لمطالب اللبنانيين حكومة وشعباً وأُرغِمت باريس على إعطاء لبنان استقلاله والاعتراف بذلك إبان انتدابها عليه منذ أن دخلته في العام 1918 إثر طرد العثمانيين منه بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى.
يوم أخذ اللبنانيون استقلالهم سعوا لبناء دولة، على أنقاض نتاقضات عدة، حيث كانت الأهواء الطائفية تسيطر على ساسته كما العامة.
وضع اللبنانيون ميثاقاً وطنياً لإدارة شؤونهم، لكن ذلك لم يكن سداً منيعاً عندما وُضِعُوا على المحك في العام 1958 حين كادت نيران الطائفية والعلاقة مع المحيط أن تُشعِل لهيباً كاد أن يقضي على الأخضر واليابس.
صمود اللبنانيين بوجه العواصف داخلية كانت أم خارجية لم يدم طويلاً، فما حققوه في الستينيات وبداية السبعينيات من تطور على المستويات كافة ومن مرحلى ذهبية لم يسعفهم في تخطي الانفجار الكبير الذي حدث في العام 1975 وامتد حتى العام 1990، فقضت الحرب الأهلية على كل شيء واستجلبت الوصاية الخارجية على البلد الذي حاول أن ينهض من كبوته مجدداً.
حول طاولة في مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية خطَّ اللبنانيون اتفاقهم بالأحرف الأولى برعاية عربية فتوقفت النار وأُعيد إعمار ما هدمته أيديهم بفعل الحرب، ولم تتوقف مسيرتهم رغم سطوة النظام السوري على لبنان أمنياً وسياسياً وعسكرياً، والاعتداءات الإسرائيلية في العام 1993 و 1996 و 1999، ثم كللوا إيمانهم بالمقاومة التي كانت محط إجماع في ذلك الوقت بتحرير الوطن من براثن العدو الإسرائيلي في العام 2000 دون قيد أو شرط.
في ذلك الوقت طرح اللبنانيون موضوع السلاح على الطاولة والانسحاب السوري من لبنان، بالتزامن مع تحضيراتهم للمؤتمرات الدولية الداعمة للبلاد على المستوى الاقتصادي، لكن كل شيء تغيَّر مع تبدل وجه العالم إثر أحداث 11 أيلول وما رافقه من تبدُّل لملامح الشرق الأوسط، سقطت أفغانستان ومن ثم العراق، وانطلقت المساعي الغربية لإيجاد شرق أوسط جديد، فكانت مخرجات قمة بيروت العربية التي تحدثت عن الأرض مقابل السلام، ومن ثم القرار الدولي 1559، لكن كل شي تعطل في ظهيرة الرابع عشر من شباط 2005 يوم اغتيل رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري بتفجير موكبه وسط بيروت.
خرج اللبنانيون في مظاهرات صاحبها قرار دولي أجبر سوريا على مغادرة لبنان، لكن ذلك ولَّد انقساماً بين اللبنانيين اعتبر الأخطر منذ العام 1975.
وفي لحظة تقارب أوجدتها طاولة الحوار اندلعت حرب العام 2006 بين لبنان وإسرائيل، لتعود الأمور إلى مربعها الأول.
بعد أشهر قليلة عايش لبنان الحرب على الإرهاب في مخيم نهر البارد، وما إن وضعت الحرب أوزارها حتى تم انتخاب رئيس للجمهورية وبالتالي دوران عقارب الساعة بالاتجاه الصحيح، لكن ذلك لم يلبث طويلاً حتى اندلع الصراع الأهلي في العام 2008 باشتباكات هي الأعنف منذ نهاية الحرب الأهلية في العاصمة بيروت والجبل، وعلى وجه السرعة تدخل العرب لإيقاف الأمر فكان مؤتمر الدوحة الذي أوجد صيغة جديدة للسلطة في لبنان، لم تحدث إلا التعطيل والتعطيل المضاد.
بعد الدوحة شهد لبنان استقراراً نسبياً لكن التعطيل كان سيد الموقف، لكن الأمن والاقتصاد لم يتشظيا بشدَّة على الرغم من الأزمة الاقتصادية العالمية وأحداث سوريا وإنهاء ظواهر عبرا وطرابلس والجرود الشرقية قبل أن تتدحرج الأمور إلى الأسوأ.
في ذلك الوقت كانت الأزمة الاقتصادية تتبلور وتبدأ بالخروج إلى السطح، وشكل قرار الحكومة رفع تعرفة الإنترنت شرارة اشتعال فتيل برميل البارود الاقتصادي.
اندلعت مظاهرات تشرين في العام 2019، أغلقت المصارف أبوابها، فُقِدَت الأساسيات من السوق، وكانت طوابير الذل عنوان المرحلة.
وكما كل مرة وفي الوقت الذي بدأ فيه التداول بطرح الحلول التي كانت ثروة النفط والغاز إحداها بالإضافة إلى التفاهم مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أطل الفراغ برأسه مجدداً ليضرب كيان البلاد برمته وفشل اللبنانيون بالتوصل إلى انتخاب رئيس جديد للبلاد وتشكيل حكومة وإصدار مراسيم التعيينات لملئ الشواغر التي أفرغت مؤسسات الدولة من قادتها، هنا تدخل العالم مجدداً لإحداث خرق في جدار التعطيل وباتت المساعي الغربية والعربية تُعَنوَن تحت انتخاب رئيس جديد للبلاد ليشكل ذلك مقدمة لإعادة الانتظام إلى المؤسسات الدستورية.
وفي الوقت الذي كانت في هذه المساعي تسلك طريقها نحو الحل الذي يرجوه اللبنانيون، استفاق العالم في السابع من تشرين الأول الماضي على أعنف مواجهات بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، واتجهت أنظار العالم إلى الأراضي المحتلة، تاركةً لبنان لمصير مجهول.
مرغماً دخل لبنان هذه الحرب، ففي ظل الأزمة الاقتصادية الاجتماعية ومخاطر النزوح والشواغر التي تعطل البلاد دستورياً، إدارياً، مالياً، نقدياً، أمنياً وفي القريب العاجل عسكرياً تتصاعد اعتداءات إسرائيل على لبنان المرهق على المستويات كافة، لتضعه أمام خيار الحرب الشاملة معروفة النتائج ومحسومة العواقب.
في المحصِّلة، يأتي عيد الاستقلال إسمياً فقط، تغيب مظاهر العيد في ظل سطوع المشاكل التي لا تحصى ولا تعد، والخوف كل الخوف من أن يصيب العجز لبنان بشيخوخة قاتلة تؤدي إلى موته وتحلل وطن لم يعرف الأبناء المحافظة عليه، ويحولوه ربما إلى بلاد متعددة متناحرة فيما بينها، أو يهجره أبناؤه بشكل كامل نهائي ليعايشوا الشتات في بقاع الأرض المختلفة.