عزت ابو علي - LebanonOn
في العام 2005 فكَّت إسرائيل ارتباطها كلياً من جانب واحد بقطاع غزة يوم انسحبت منه وأخلت مستوطناته بشكل نهائي، وطَبَّقَ رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق أرييل شارون خطة حصار القطاع براً وبحراً وجواً.
يوم انسحبت إسرائيل من غزة اعتبرت الأمر مجرد حدث عادي، فالبنسبة لها فإن القطاع ليس أكثر من شريط ساحلي ضيق يعيش على أرضه فقراء ومهمشون، ولا يشكل القطاع أية أخطار أمنية محدقة بإسرائيل.
كان الانسحاب من غزة يمهد الطريق لإسرائيل للتفرغ لحل مشاكلها المعقدة في الضفة الغربية المحتلة، الذي خرج منها مقاتلون ألحقوا بكيان الاحتلال خسائر فادحة.
ففي نيسان من العام 2003 كانت إسرائيل تروج لما أسمته "خارطة الطريق" وجاء تقرير "ميتشل" وخطة "زيني" لدعم الاقتراح الإسرائيلي بإجراء مقايضة بين وقف المقاومة، والإقلاع عنها بشكل نهائي، وتصفية بنيتها التحتية، في مقابل وقف الاستيطان وقفاً تاماً.
رأى الفلسطينيون في خارطة الطريق حلاً انتقالياً ونهائياً يؤسس لدولتهم التي حلموا بها، إلا أن إسرائيل كانت تنظر إليها على أنها خطة أمنية لها أبعاد سياسية، لذا قتلت حكومة شارون خارطة الطريق في مهدها، وذلك من خلال الموافقة الشكلية عليها وتقديم تحفظات ضمنت من خلالها تحويل خارطة الطريق الدولية إلى خارطة طريق إسرائيلية، واستطاعت إسرائيل تحقيق هذا الهدف بفضل التعهد العلني الذي أعطته الإدارة الأميركية لشارون، وذلك عبر إصدار بيان وقعه وزير الدفاع الأميركي آنذاك كولن باول ووزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس في فترة رئاسة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأولى، التزمت فيه واشنطن وتعهدت بأخذ الملاحظات الإسرائيلية على خارطة الطريق بالحسبان عند التطبيق.
ومن أبرز الملاحظات الإسرائيلية على خارطة الطريق ضرورة استبدال التبادلية والتزامن بالتتابع أي يطبق الفلسطينيون أولاً التزاماتهم، خصوصاً فيما يتعلق بمحاربة "الإرهاب" وتصفية بنيته التحتية ثم تنظر إسرائيل فيما بعد في كيفية تنفيذ التزاماتها.
وبعدما تأكد فشل خارطة الطريق، بعد فشل الخطوات أحادية الجانب التي أقدمت عليها إسرائيل، قال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير وهو مهندس خارطة الطريق إنها لا تكفي وحدها ويجب أن ترفق ببعد سياسي.
وعندما بدا أن الأمور تسير نحو توظيف الإدراك المتزايد على مستوى العالم كله لأهمية القضية الفلسطينية، وضرورة الإسراع بحلّها، على أساس أن حلها هو مفتاح حل أزمات ومشاكل المنطقة برمتها، تبخّر حلم الحل بشكل مفاجىء، وجاءت الولايات المتحدة الأميركية لفرض خطة أمنية على الفلسطينيين.
كان كيث دايتون الذي أُسميت الخطة على اسمه رجل عسكري، عُيِّن منسقاً أمنياً للشؤون الإسرائيلية الفلسطينية في تل أبيب، واقتضت خطة دايتون بمقايضة الأمن بالاقتصاد، وبث أحلام وردية للفلسطينيين بانسحاب إسرائيل من أريحا، وبعد ذلك من جنين، ثم من الخليل، ثم رام الله، انتهاءً بنابلس.
لم تطبق الخطة، وعادت القوات الإسرائيلية الى أريحا، بعد أن انسحبت منها، وأخذت تقتحم المدينة كما تشاء، أسوة ببقية المدن والقرى والمخيمات في الضفة الغربية المحتلة.
لعب دايتون دور البطل الذي سيقيم دولة للفلسطينيين، ولعب على وتر العسكريين الفلسطينيين بهدف إقناعهم بأن طريقته في التدريب والأداء والاستهداف هي التي ستؤدي حتماً إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة، وروَّج دايتون لخطته بالقول علناً بإنه يعمل من أجل الفلسطينيين، من أجل أن يكونوا قادرين على تحمل مسؤولية أمن بلدهم، وبذلك يصبحون قادرين على إقامة دولة فلسطينية.
ومن خلال هذه النقطة أطلق دايتون عمليات تدريب قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية وسلَّحها بالأسلحة الخفيفة والآليات حتى وصل تعدادها إلى 40 ألفاً، وأقنع دايتون هذه القوة أن مهمتها القضاء على "الإرهاب" أي المقاومة تمهيداً لقيام الدولة الفلسطينية، ونجح في خطته فيما عُرِفَ وقتها بالتنسيق الأمني بين الإسرائيليين وقوات الأمن الفلسطينية.
وقضت خطة دايتون بضرورة قيام السلطة الفلسطينية بمهام أمنية مثل تجريد المقاومة الفلسطينية من السلاح وملاحقة المقاومين، وتدمير البنى التحتية لها، وفي مقابل ذلك يجب دعم السلطة الفلسطينية مالياً وتسليحاً وتجهيزاً لكي تتمكن من القيام بالمهام المطلوبة منها، وهذا ما حصل فعلاً حتى انطفأت شعلة المقاومة في الضفة الغربية المحتلة.
كان هدف دايتون أمن إسرائيل أولاً وأخيراً، وكان هاجسه منع حركة حماس المعادية لإسرائيل من قلب المفاهيم في الضفة الغربية المحتلة، خاصة بعد نجاحها الساحق في الانتخابات وسيطرتها على المجلس التشريعي، لاحقت السلطة الفلسطينية أعضاء حماس في البرلمان واعتقلتهم وسلمتهم إلى إسرائيل وبذلك تمكنت من إعادة الوضع السياسي في الضفة الغربية المحتلة إلى ما كان عليه قبل سيطرة حماس السياسية بناءً على نتائج الانتخابات.
لم تكن غزة وقتها أولوية إسرائيلية، فسيطرت حماس على القطاع بشكل كامل وحولته إلى قاعدة عسكرية كبيرة للمقاومة، شكَّل فيما بعد ضربة مؤلمة للعدو الإسرائيلي، بناء على نتائج الحروب المتعددة، خاصة الحرب الحالية التي تدور رحاها "طوفان الأقصى".
رسمت هذه الحرب طريقاً لأهل الضفة من المدنيين وشعوراً بضرورة عودة العمل المقاوم، وولَّدت في نفوس أجهزة أمنها شعوراً بأن لا طائل من التنسيق الأمني وأن هذه الآلاف من رجالها لا بد أن يكونوا في صلب المعركة.
كل هذا يفسِّر عودة العمليات ضد الإسرائيليين في الضفة وكم الشهداء الهائل من أبنائها خلال هذه المعركة فضلاً عن المعتقلين وبيانات التهديد من ضباط أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية بالاصطفاف خلف المقاومة بحيث اقتنعوا أنها الحل الوحيد للتحرير بعد حفلات التكاذب الإسرائيلية بشأن العملية السياسية.
دفع ذلك المحللين الإسرائيليين للتحذير من النار التي ستندلع في الضفة الغربية المحتلة، وحذَّر هؤلاء من أن الضفة ستكون في المستقبل القريب غزة أُخرى ولكن بشكل أكبر بكثير مما تبدو عليه الأوضاع الآن.
يبدو أن معركة طوفان الأقصى أقنعت الفلسطينيين في الضفة بأنهم أصحاب سياسة ومقاومة، وأن طروحات خارطة الطريق وخطط ميتشل وزيني، وأخيراً دايتون، لم تكن إلا وسائل أمنية لحماية إسرائيل، وأن خطورة هذه الخطط جميعها كرست عدم وجود أساس سياسي وقانوني للمفاوضات، يتم الاستناد إليه والاحتكام له، بل أصبح الأمن الإسرائيلي وحده هو المرجعية، ومن خلال تطوُّر هذه المفاهيم والأصوات العربية المُطالبة بحل الدولتين بناءً على نتائج عملية طوفان الأقصى لغاية الآن، يبدو أن الفلسطينيين يندفعون باتجاه إنهاء الاحتلال وليس تحسين شروطه، ولكن كل ذلك مرتبط بتغيير السياسة الفلسطينية المتبعة حالياً والتي لا تقدِّم إلاَّ منح إسرائيل الوقت اللازم لاستكمال تثبيت احتلال للأرض، تغيير هذه السياسة بات أقرب من أي وقت مضى للتحقق، وإن سيل النار الذي سيأتي من الضفة الغربية المحتلة ربما لن يكتفيَ بدولة على حدود خط الرابع من حزيران 1967، بل ربما يتعداه لأراضي الـ 1948، فما شاهده الفلسطينيون في غلاف غزة مؤخراً، بات يشكل لهم قناعة بأن القضاء على إسرائيل ليس مستحيلاً ولا هو مجرد ضرب من ضروب الخيال.