عزت أبو علي - Lebanon On
حكمت الدولة العثمانية العالم العربي بشكل فعلي لأربعة قرون من الزمن، بالقوَّة في بعض أجزائه وبالتبعية والولاء الديني في أجزائه الأُخرى.
وفي العام 1909 بدأ العالم يغلي انطلاقاً من قارة أوروبا حيث بدأت ملامح الحرب الكُبرى بالظهور إلى العلن، لتنفجر في العام 1914 بما عُرِفَ بالحرب العالمية الأولى.
آنذاك دخلت الدولة العثمانية الحرب إلى جانب ألمانيا ضد فرنسا وبريطانيا وروسيا وفيما بعد الولايات المتحدة الأميركية.
ومع الهزائم المتلاحقة التي تلقاها العثمانيون على أكثرمن جبهة، وفي ظل قمعهم الدموي للعرب وفرض التجنيد الإجباري وسياسة التتريك عليهم وإعدام مثقفيهم، رأى العرب بقيادة الشريف حسين أن الفرصة مؤاتية للتخلص من هذا الإرث الثقيل عليهم فدخلوا الحرب في منتصفها إلى جانب الحلفاء تحت مسمى الثورة العربية الكبرى وطردوا العثمانيين من أراضيهم، ليُشكلوا أحد أهم أسباب سقوط تلك الدولة في العام 1918 والتي دام عمرها لأكثر من 600 عام.
وبالتزامن مع تنامي الشعور القومي لدى العرب، كانت روسيا تتحول من النظام القيصري إلى النظام الشيوعي بعد ثورة البلاشفة بقيادة لينين عام 1917 ليتأسس الاتحاد السوفياتي الذي شكَّل قوة عظمى بوجه الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.
كان الشغل الشاغل للحلفاء وقتها البحث عن سُبُلٍ للوقوف بوجه المد الشيوعي أولاً وتنامي الروح القومية لدى العرب ثانياً خاصة في الشرق الأوسط، هذه المنطقة الحيوية من العالم.
آنذاك كانت بريطانيا تحكم مصر فوجدت أن المنطقة يمكن السيطرة عليها بالورقة الدينية عوضاً عن الشيوعية أو الماركسية أو القومية، فدعمت صعود تنظيم الاخوان المسلمين.
عام 1928 لمع اسم حسن البنا وهو مصري أسَّس مع رفاقه تنظيماً دينياً عُرف باسم الاخوان المسلمين، لكن الرجل اغتيل عام 1948.
دعم التنظيم ثورة الضباط الأحرار الذي قادها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر عام 1952 والتي أطاحت بالنظام الملكي في مصر، لكن هذا التحالف ما لبث أن سقط وتحوَّل إلى خلاف علني بعد اتهام عبد الناصر الجماعة في العام 1954 بتدبير حادثة المنشية عندما حاولت الجماعة اغتياله بسبب اختلاف أجندة كل من الطرفين.
عام 1965 اعتقل عبد الناصر المنظِّر الفكري للجماعة سيد قطب الذي كان يقود تنظيماً سرياً خاصاً بالجماعة وبعد عام من اعتقاله أعدمت السلطات المصرية سيد قطب، فخرجت من رحم جماعة الاخوان المسلمين ومن وحي أفكاره الكثير من الجماعات المتطرفة كـ "جماعة التكفير والهجرة والجماعة الإسلامية والحركات الجهادية" التي بدأت تنشط في المجتمع المصري.
ومع احتلال الاتحاد السوفياتي لأفغانستان انتقل أفراد هذه الجماعات بعشرات الآلاف إلى أفغانستان لقتال الجيش الأحمر، ومع نهاية الحرب عاد من بقي من هؤلاء إلى المنطقة العربية ومنها مصر وعملوا على نشر أفكارهم بالقوة في هذه المجتمعات.
يقول مدير منتدى شرق المتوسط للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة الدكتور محمد حامد لـ "Lebanon On" إن أفكار سيد قطب مُنظِّر الجماعة شكَّلت "مفرخة" وكانت مُؤَسِّسَة ومُنتجة لنشوء كل الحركات الإرهابية والتكفيرية مثل "تنظيم القاعدة" و"داعش" و"جبهة النصرة" و"الجماعات الإسلامية" و"منظمة التكفير والهجرة" و"الناجون من النار" و"أنصار بيت المقدس" وعشرات المنظمات التي ظهرت في العالم العربي وزرعت خلاياها فيما بعد في غالبية دول العالم واستقت كل هذه التنظيمات بحسب حامد أفكارها من سيد قطب وبالتالي من جماعة الاخوان المسلمين.
يستشهد حامد كما غيره من خصوم الجماعة ممن نسبوا الإرهاب ودعموا نشوءه إليها بكلام مصطفى مشهور وهو المرشد الخامس لجماعة الاخوان المسلمين حين قال في محاضرة ألقاها في مصر "إن لفظ الإرهاب هو من ألفاظ القرآن الكريم، وهو عقيدة إسلامية خالصة، ليس هو فقط، ولكن أيضاً لفظ الرعب، فنحن لا ننتصر إلا بالإرهاب والرعب، ويجب ألا ننهزم نفسياً من اتهامنا بالإرهاب، نعم نحن إرهابيون"، واستطرد مشهور في محاضرته قائلاً "ولكن يجب أن تعلموا أن هذا العلم هو علم الخواص، ونحن من الخواص، ولا يجب أن نصدح به أمام العامَّة حتى لا يجفلوا من جماعتنا، فنحن في فترة تشبه فترة وجود النبي محمد في مكة، حيث كان آنذاك سلمياً لا يقاتل، ولكن بعد أن أقام دولته قاتلهم".
وكذلك استشهدوا بمقولة عبد الله عزام "نحن إرهابيون والإرهاب فريضة، وليعلم الغرب والشرق أننا إرهابيون وأننا مرعبون، نحن إرهابيون والإرهاب فريضة بالكتاب والسنة وما لم يَرهَبنَا الكفار، فلسنا مسلمين حقيقيين ... ممنوع أن تقوم دولة إسلامية أي واحد يفكر بالدولة الإسلامية إرهابي، والمسلم مرعب، نصرنا بالرعب، ديننا قام بالسيف، بدون السيف لا يوجد دين ... السيف لإزالة الطواغيت ...".
من كلمات مشهور وعزام يقول خصوم الجماعة إن تنظير سيد قطب في كتابه "معالم الطريق" هو الذي فتح لهم باب إِعمَال القياس التاريخي.
يعترف حامد بأن الجماعة متغلغلة في المجتمع المصري ولدى سؤاله عن السبب عاد بالتاريخ إلى سبعينيات القرن الماضي وتحديداً بعد حرب عام 1973 بين مصر وإسرائيل ليقول" إن الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات عقد صفقة تاريخية مع جماعة الاخوان المسلمين وكان محور الصفقة القضاء على الفكر الشيوعي والناصري في البلاد وتلميع صورة الحاكم في مقابل أن يخرج أتباع الجماعة من السجون وأن يكون لها تواجد أكبر في المجتمع المصري خاصة في النقابات العمالية والأندية والمدارس والمستشفيات وبعض وسائل الإعلام وداخل المؤسسات الحكومية بشكل أو بآخر، واستمر ذلك مع الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، وبعد الثورة التي أطاحت بحكم مبارك في العام 2011 كانت الجماعة مهيأة لحكم مصر لما أوجدته من حاضنة شعبية كبيرة خاصة في المناطق الريفية من محافظات مصر وليس المدن المركزية كالقاهرة والاسكندرية وطنطا والمنصورة والزقازيق، ولكن امتلكت الجماعة في أرياف المدن ومحافظات صعيد مصر قوة أكبر بكثير مما امتلكته القوى الليبرالية والديمقراطية وفلول الحزب الوطني المنحل الذي كان يحكم مصر لمدة 40 سنة وصُعِقوا من حجم الشعبية التي يملكها الاخوان في ذلك التوقيت مما مكنهم من الوصول إلى الرئاسة وحصد الغالبية في البرلمان".
الممارسات السلبية للجماعة في البرلمان والرئاسة بحسب حامد جعلت الشعب المصري يشعر ويتأكد أن هذه الجماعة غير وطنية ولا تعترف بحدود الأمن القومي وليس لديها خوف على مصلحة مصر العليا وتؤمن بأولوية أفكار تنظيم جماعة الاخوان المسلمين على المستوى الدولي أكثر من أولوية مصر كدولة قائمة بحد ذاتها.
ويرى حامد أن هذه الممارسات دفعت الشعب المصري للخروج بالملايين إلى الشوارع بهدف إسقاط حكم الاخوان المسلمين وهذا ما حصل خلال الثورة التي دعمها الجيش المصري بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي كان آنذاك وزيراً للدفاع ويؤكد أنه لولا ذلك لتغير وجه مصر والمنطقة ككل إلى الأبد، ويلفت إلى أن هزيمة التنظيم وطرده من مصر شكّلت ضربة قاضية له وشجع الدول العربية الأخرى وعدد من الدول الغربية على شن حملة أمنية عليه لتجنب مخاطره الإرهابية على كافة المستويات خاصة وأن الجماعة وضعت نُصب أعينها تلميع صورة الإسلام السياسي بوجهيه المعتدل والمتطرف وشدَّد على أن الجماعة ورغم تسويق نفسها على أنها معتدلة إلا أن كل أجنداتها تتماهى مع الجماعات الإرهابية لتحقيق مآربها كافة.
تلا السقوط المدوي للجماعة في مصر، انهيارها بشكل تام في ليبيا وتونس والسودان وهزيمة ساحقة في انتخابات المغرب بعد أن فازت بها سابقاً وشكَّلت الحكومة برئاسة سعد الدين عثماني، كذلك اختفت الجماعة كلياً في سوريا بعد أن تمكنت من الظهور مجدداً خلال الأحداث التي اندلعت في العام 2011، (كانت الجماعة محظورة منذ هزيمتها في أحداث حماه الشهيرة في ثمانينيات القرن الماضي على يد الجيش العربي السوري) لكن ما لبثت أن اختفت كلياً عن المشهد السوري نتيجة الضربات الموجعة التي تلقتها ثم التحاق من بقي من عناصرها بالتنظيمات الإرهابية، فضلاً عن الجزائر التي قضت على التنظيم بعد العشرية السوداء في تسعينيات القرن الماضي.
على مستوى دول الخليج العربي يرى حامد أن دول الخليج تخشى التنظيم بشكل عام نتيجة أيديولوجيته المُهددة لاستقرار أنظمة الحكم فيها وبراعته في تحريض الشعوب على الحكومات وبالتالي تحارب دول مجلس التعاون التنظيم فكرياً وأمنياً لشل حركته هناك، باستثناء قطر التي تهادنه وتأوي عدداً من قيادته حيث تعتبر الدوحة أن عمل التنظيم تحت أعينها وبعيداً عن تشويه صورة الحاكم لا يعد مساساً بالأمن القومي لها، وكذلك الأردن التي تراقب عن كثب أنشطة الأخوان.
في لبنان ما من وجود فعلي ومؤثر للتنظيم نتيجة عوامل الديمغرافيا فهو ينشط في الساحة السنية عبر الجماعة الإسلامية التي تحمل أفكاره ولكن بشكل غير مؤثر وضعيف نسبياً نتيجة عوامل تتجلى بالخلافات الدائمة بين أعضائه وانشقاقات مستمرة وقوة الأحزاب والتيارات المعتدلة في هذه الساحة حيث لم يستحوذ التنظيم على اهتمامات الشارع السني وعلى الرغم من سعيه الدائم للوصول إلى البرلمان إلا أن التنظيم حصل على مقعد نيابي واحد بأصوات تيار المستقبل في الدورة ما قبل الماضية من انتخابات البرلمان وعلى نائب واحد حالي وصل بعد تحالفه مع شخصيات بيروتية وازنة في العاصمة، لكنه فشل في إيصال أي من مرشحيه في باقي المناطق اللبنانية خاصة في أماكن تعتبر معاقل تاريخية له كمدينتي صيدا وطرابلس وأظهرت الانتخابات النيابية الأخيرة ضعفه وترهله في لبنان بالإضافة إلى علاقاته المتذبذبة مع دار الإفتاء الممثل الرسمي الشرعي للمسلمين في لبنان، وبالتالي فإن التنظيم مكبل في لبنان وسط غياب الحاضنة الشعبية والرسمية له، لكنه يعمل بِحُريَّة بعيداً عن تدخله في أية أعمال أمنية.
في فلسطين المحتلة تحمل حركة حماس فكر الاخوان المسلمين لكن مؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين أعطى الأولوية لقتال العدو الإسرائيلي ووحدة الساحة الفلسطينية بعيداً عن المناكفات السياسية، وبعد استشهاد ياسين إثر غارة إسرائيلية استهدفته بدأت الخلافات تدب بين حماس من جهة وحركة فتح التي تعتبر الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني من جهة أُخرى، ليذهب الخلاف إلى حد الاقتتال الداخلي وسيطرة حماس على قطاع غزة، وتتهم مصر وسوريا الحركة بمشاركتها في أعمال أمنية ضد حكومتي القاهرة ودمشق إبان الأحداث التي جرت مؤخراً في البلدين، لكن حركة حماس أعلنت عام 2017 فك ارتباطها نهائياً بتنظيم الاخوان المسلمين واعتبار نفسها تنظيماً فلسطينياً مستقلاً وما لبثت أن عادت إلى البيت الفلسطيني والحضن العربي.
السقوط المدوي للإسلام السياسي في المنطقة العربية، دفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يُناصرهم إلى حد ما لإعادة حساباته مجدداً، فبحسب حامد فإن أردوغان استعمل الاخوان كورقة سياسية لمبارزة الدول العربية ما بين الأعوام 2010 و 2015 لكنه في النهاية عاد للتعامل مع النظام الإقليمي العربي وبدأ يطلب التقارب مع عواصم القرار الخليجية التي زارها مراراً فضلاً عن مصر في هذه المرحلة حيث يتقدَّم بقوة ملف تطبيع العلاقات بين أنقرة والقاهرة التي وقفت بوجه تدخله في شؤونها االداخلية، ويؤكد حامد أن أردوغان استخدم تنظيم الاخوان كمطية لتمدده عربياً ويشدد على أن التنظيم في الوقت الحالي متضعضع وفي أضعف حالته.
مواجهة الأفكار المتطرفة لا بدَّ ألا تقتصر على المواجهة الأمنية وحدها بل تتعداها إلى مواجهة فكرية وتعريف الأجيال الجديدة عن خطورة مثل هذه التنظيمات الأيديولوجية المتطرفة والانتساب لها وحمل أفكارها سواء أعلنت ذلك أم لم تُعلن فهذه التنظيمات لا تكترث ولا تهتم بمعايير الأمن القومي ولا وجود مؤسسات دولة قوية وتُعتَبَرُ الخطر الداهم على كيان الدول ووحدتها.