محمد قواص - سكاي نيوز
نكاد نصدق أن القوى السياسية اللبنانية جادة فعلا في الاهتداء إلى رئيس للجمهورية "صنع في لبنان". ونكاد نتوقع أن مسلسل الجلسات البرلمانية لانتخاب رئيس للجمهورية من قبل نواب الشعب قد تسفر، للمفارقة، عن ولادة محلية لشخصية تُرسل إلى قصر بعبدا للسنوات الست المقبلة.
وعلى الرغم من تداول أسماء أفصحت عن بعضها أوراق الاقتراع في جلسات مجلس النواب السابقة، وعلى الرغم من تداول اسم ميشال معوّض مرشحا ينال دعما من قبل زعيم "الاشتراكي"، وليد جنبلاط، وزعيم "القوات"، سمير جعجع، وقوى "سيادية" أخرى، وتداول اسم سليمان فرنجية مرشح حزب الله المفضل والغير معلن، إلا أنه في غياب حسم خارجي فإن أطراف الداخل مضطرون، ربما بضيق وحيرة، إلى الانخراط في طبخة داخلية قد تنضج يوما بعد آخر.
ما استنتجه الداخل اللبناني أن الدول المعنية مباشرة، لا سيما الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية يجتمعون، وعلى عكس ما يتمناه بعض أفرقاء البلد، على عدم المسّ بالنظام السياسي، وبالتالي الحفاظ على ستاتيكو دستوري لا يملك العالم في الظروف الحالية ترف دعم أي تعديل له. وما يمكن استنتاجه من تحذير مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، باربرا ليف، من أن لبنان مفتوح أمام كل السيناريوهات، بما فيها "تفكك كامل للدولة"، أن العالم غير قادر على وقف انهيار في يدّ اللبنانيين وحدهم منع قَدَرِه.
وما تمّ استنتاجه أيضا أن دولا أساسية مثل إيران وروسيا والصين لا تملك معاندة مزاج دولي بشأن لبنان لا يسمح، حتى الآن، بتمرير تسويات كتلك التي أتاحت للنظام السوري في عهد الرئيس حافظ الأسد الإمساك بالبلد وإدارة شؤونه في عام 1976 ثم في التسعينيات بعد حرب تحرير الكويت.
ولئن أخرجت صناديق مجلس النواب تاريخياً أسماء رؤساء الجمهورية وفق تفاهمات خارجية، عربية دولية، فإن التفاهم غائب هذه الأيام على اسم ما ولا انشغال أساسا بتحري هذا التفاهم، ذلك أن الأمر، منذ "الطائف" لم يعد متعلّقا فقط بهوية الرئيس، كما أن الانقسام الدولي الراهن لم يُحسم لصالح أي طرف على نحو لا يتيح فرض خيار أو ترجيح كفّة خيار آخر.
عام 1970 بدا أن الخارج لم يكن معنياً بتفضيل اسم على آخر في رئاسة الجمهورية فذهب مجلس النواب إلى انتخاب سليمان فرنجية بفارق صوت واحد عن منافسه الياس سركيس. وقيل حينها إنه رئيس "صنع في لبنان".
والأرجح هذه الأيام أن الاسم بحدّ ذاته قد لا يكون شديد الأهمية في رهانات القوى الكبرى، ذلك أن كارثة البلد وكيفية انتشاله من أوحاله تتطلب خريطة طريق تجاهر بها المؤسسات المالية الدولية ومنابر الدول المانحة، ولا مفرّ لأي رئيس من أن يتآلف مع كل المنظومة السياسية اللبنانية لتنفيذها. ووفق ذلك على اللبنانيين المنكوبين أن يهتدوا إلى هذا الرئيس طالما أن "لا كلمة سرّ خارجية" في هذا الصدد وفق ما يؤكد جعجع ويستمر في تأكيده.
بناء على هذا المعطى سيكون على اللبنانيين التوافق على رئيس يمثّل "امتثالهم" للخطط العربية-الدولية لإنقاذ البلد. وهنا لا يهم باريس وواشنطن ولندن وبرلين من سيكون هذا الرئيس على الرغم من أن المواصفات السعودية لهذا الرئيس هي أصل في خيار اللبنانيين إذا ما أرادوا سلوك معابر جادة لخلاص البلد، وهي أصل في أي توافقات دولية، لا سيما مالية، لصالح لبنان.
والحال أن رعاية السفير السعودي للمؤتمر المحتفي بالذكرى الـ 33 لاتفاق الطائف في 5 نوفمبر في بيروت، كشفت عن وسطية في التعامل مع كل طوائف البلد وتياراته السياسية، وغياب أي فيتو واضح عن أي مرشح محتمل لرئاسة الجمهورية. ولئن تدفع الرياض للحفاظ على اتفاق أُبرم في السعودية، إلا أن "الطائف" يبدو هذه الأيام "لبنانيا" متخلّصا من الوصايات التي حكمته وشوّهت نصوصه.
وعدم دعوة حزب الله لحضور المؤتمر منطقي بالنظر لعلاقة القطيعة بين الرياض والحزب الذي تُدرجه على لوائح الإرهاب، غير أن غياب أي تهجّم على الحزب وسلاحه في كلمات المتحدّثين، لا سيما أولئك المعروفين بصقوريتهم في معارضته، لم يكن صدفة بل تلبية لتوجّه واضح أراده الراعي السعودي وحرص على احترامه.
وما يسمعه ساسة لبنان من الخارج يحثّهم على انتخاب رئيس محليّ الصنع في لحظة تاريخية نادرة لا يريد هذا الخارج أو لا يستطيع فرض رئيس على لبنان واللبنانيين. وإذا ما يمارس الخارج ضغوطا حقيقية فهي تلك التي يختصرها صندوق النقد والبنك الدوليين في فرض شروط وقواعد ومعايير تُفرض على لبنان لضبط ماليته قبل الحصول على أي تمويلات.
والحال إن الحراك الداخلي بين ساسة البلد بات أكثر نجاعة على ما يكشفه تطوّر المواقف التي تصدر ولو بخجل عن ناخبين كبار (مفيد تأمل تحولات جنبلاط المحتملة). ولئن يقود رئيس مجلس النواب نبيه بري ورش التسوية أيا كانت طبيعة واجهاتها من حوار عام إلى استشارات انتقائية، فإن همّة سفراء الخارج، ومنها الإيراني، وربما ردا على / أو التحاقاً بهمّم السفير السعودي، تتحرى تشجيع تسوية داخلية هدفها مواكبة التحولات الرمادية والمحتملة التي ستشهدها المنطقة في السنوات المقبلة.
صحيح أن ما تسرّبه بعض أطراف الداخل يوحي بالاستعداد إلى فراغ رئاسي طويل الأمد على غرار ما شهده البلد قبل انتخاب عون، غير أن هذا الداخل يدرك جيداً أن ظروف البلد الاقتصادية قد تغيّرت بما لا يسمح بـ "إثم" الفراغ الذي عرفه البلد في مؤسساته التنفيذية والتشريعية، كما أنه يعرف أن من المصلحة الماكيافيلية للمنظومة السياسية، التي وافقت على صفقة المبعوث الأميركي آموس هوكستاين لإبرام اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، أن تستمر في صيانة مصالحها بالمسارعة إلى إنتاج منظومة حكم تبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية ثم تشكيل حكومة بإمكانها التعامل مع العالم وفق المستجد الطاقوي في المياه اللبنانية.
قد يكون لافتا أن الانتخابات البرلمانية أنتجت مجلس نواب منقسّم يمنع أي فريق سياسي من فرض خياره على الفريق الآخر، وهذا أمر لبناني صرف. اللافت أيضا أن أساس المشكلة هذه الأيام مسيحية محلية وليست دولية من خارج الحدود، وهذا أيضا عامل لبناني. يتأمل الخارج هذا المشهد بدقّة ويستنتج عجزه وتعويله فقط على "ترسيم" رئيس من الداخل ينسجم مع ما خطّه ترسيم هوكستاين بغطاء دولي شامل.
وإذا ما يشترط القيادي في حزب الله الشيخ نبيل قاووق في المواصفات التي يطلبها "حزب الله" في شخص رئيس الجمهورية بألا يكون "رئيساً بمواصفات أميركية أو سعودية"، ففي ذلك تسليم بأنه لن يكون بمواصفات إيرانية ما قد يستدعي الخضوع لرئيس "صنع في لبنان".